غالباً ما يطرح خيار (التخصيص) باعتباره حلاً لتجاوز الترهلات الحكومية في إدارة بعض القطاعات التي تتطلب مرونة أكبر، ولإيجاد طريقة للسماح لقوى السوق الديناميكية بالتأثير في عجلة الإنتاج واستحداث الحوافز المباشرة وإحياء روح التنافسية المحرضة على الابتكار والتجديد. ومنذ أن بدأت بريطانيا في عهد رئيسة الوزراء الحديدية مارغريت تاتشر والولايات المتحدةالأمريكية في عهد رئيسها الجمهوري العتيد رونالد ريجان بحملة التخصيص الواسعة لكثير من القطاعات التي كانت تسيطر عليها الحكومة، ونجحا في ذلك إلى حد كبير، أصبح التخصيص أشبه ما يكون بالحل السحريّ لكل قطاع حكوميّ مترهل. وغمرت العالم موجة من التخصيص في كل قارة. غير أن نجاح مشروعات التخصيص تفاوت من قطاع إلى قطاع ومن دولة إلى أخرى بطبيعة الحال، مما حدا إلى موجة رجعية من التأميم للقطاعات التي سبق تخصيصها بعد أن تعرضت تلك القطاعات لحالات من الفساد والاحتكار وارتفاع الأسعار فوق قدرات المواطن البسيط. بين هاتين الموجتين المتضادتين، بدأت خيارات التخصيص الجزئي تطرح نفسها كبديل يمكن من خلاله حصد فوائد التخصيص من حيث المرونة والتنافسية والديناميكية وتحسن الأداء وارتفاع الإنتاجية مع الاحتفاظ بفوائد التأميم من حيث الرقابة والعدالة وتساوي الفرص وضبط القطاع. ولعل أكثر دولة في العالم نجحت في تطبيق هذا التخصيص الجزئي هي الصين التي قامت بتأسيس شركات ضخمة مملوكة بالكامل للحكومة غير أنها تدار بآليات القطاع الخاص. أطلق الاقتصاديون على هذا النظام الهجين اسم (رأسمالية الدولة)، وأفرغت مجلة الإيكونومست ملفاً مستقلاً عن هذا المفهوم الجديد في عددها الصادر في 21 يناير 2012. في السعودية، يتم تطبيق هذا النظام الهجين بنجاح كبير مثلما هو مشهود في شركة الاتصالات وشركات البتروكيماويات والإسمنت الكبرى. فبغض النظر عن الفوارق الخاصة بكل شركة، فإن جميع هذه الشركات تدار بشكل أفضل من كثير من القطاعات الحكومية الصرفة، كما أنها تسهم بشكل مباشر في دعم روافد الاقتصاد الوطني عن طريق توفير الوظائف للسعوديين ودفع عجلة الابتكار والخبرة. نجاح هذه الشركات دعا بكثيرين إلى المطالبة بتخصيص قطاعات أخرى. أحد هذه القطاعات هي الجامعات. فهل هذا ممكن؟ في الحقيقة، إن كثيراً من الجامعات الرائدة حول العالم هي جامعات نشأت حكومية ومازالت كذلك. موجة التخصيص العالمية لم تشمل قطاع التعليم العالي لأسباب عديدة. منها تخوف الكثيرين من العواقب بعيدة المدى لعملية تحويل التعليم العالي إلى سلعة يشتريها من يملك ثمنها فقط. ومنها أيضاً التخوف من انجراف أنشطة البحث العلمي نحو متطلبات السوق وبالتالي مصادرة حرية الباحثين وقتل فضولهم العلميّ. غير أن نجاح الكثير من الجامعات الخاصة في توفير التعليم لمن لا يملك ثمنه ولكن يملك القدرة على نيله بتفوق عن طريق المنح الدراسية، ونجاحها أيضاً في تقديم بيئة بحثية حرة جعل الأمر جدلياً بين مناد بخصخصة التعليم العالي وتأميمه. الجامعات السعودية الحكومية في غالبها تعاني من تكدس الطلاب وضعف التحصيل العلمي والتغريد خارج سرب الاقتصاد الوطني وسوق العمل. أما الجامعات الحكومية الخاصة فتعاني من ضعف إقبال الطلاب باعتبارها البديل الثاني في حالة تعذر القبول في جامعة حكومية، وارتفاع رسومها بالنسبة للبديل الأول المجانيّ (وليس بالنسبة للجامعات الأخرى حول العالم)، وأيضاً عدم تمكن أي منها حتى الآن من اكتساب سمعة جذابة في سوق العمل تدفع عجلة الإقبال عليها. فما زال سوق العمل وأولياء الأمور يتوجسون من التعليم العالي المحليّ الخاص باعتباره عرضة للتساهل في المعايير ومنح شهادة غير مستحقة مقابل جذب مزيد من الطلاب. إن خصخصة التعليم العالي في السعودية ليست هي الحل مثلما أن إبقاء الحال على ما هو عليه ليس حلاً أيضاً. فمسؤولو الجامعات يشتكون من ضعف اهتمام الطلاب وممارستهم للدراسة الأكاديمية في الجامعات باعتبارها حقاً مكتسباً لا يتطلب العمل والجهد والمثابرة، بينما يشتكي الطلاب من تعامل الجامعات الحكومية معهم باعتبارهم معاملات حكومية وعبئاً طلابياً ينبغي إنجازه فحسب، وتعامل الجامعات الخاصة معهم باعتبارهم زبائن فلا يهتمون بتحصيلهم العلمي بقدر ما يهتمون برسومهم الدراسية. وبالتالي فإن تخصيص الجامعات الحكومية سيفاقم الشكوى الأولى بينما تأميم الجامعات الخاصة سيفاقم الثانية. إن التخصيص الهجين قد يكون حلاً في هذه الحالة. كأن تحول الحكومة جامعاتها الكبرى إلى شركات حكومية تتنافس فيما بينها على استقطاب أكبر عدد من الطلاب، ويقوم هؤلاء الطلاب بالتنافس على منح حكومية تسمح للأفضل منهم بالدراسة المجانية بينما تتقاضى الجامعة من البقية رسوماً دراسية تقلّ كلما تحسن أداؤهم الأكاديمي وتزيد كلما انخفض. هذا يعني استحداث حافز اقتصادي للجامعات الحكومية لتحسين مستويات التعليم لديها كما تمنح نفس الحافز الاقتصادي للطلاب لتحسين تحصيلهم العلمي. وبامتلاك الحكومة للحصة الأكبر في أسهم هذه الجامعات بعد التخصيص، يمكنها أن تمنع الجامعة من انحراف الأهداف وتخبط المعايير كما يمكنها أن تعمل على شفافية هذا النظام وعدالته واستمراريته.