تبدأ قصة هذا المرض الغريب (العقلي النفسي) من قصة السيد دونالد تريبلت (Donald Triplett). هو الآن في الثمانين. في كل يوم يتوجه إلى مضرب الجولف في غابة ولاية مسيسبي. يلعق أصابعه ويكرر ذلك مرارا. ثم يلوح بمضرب الكرة إلى الأعلى، ويكرر ذلك عدة مرات، ثم يهوي على الكرة فتطير. يركض خلفها بخطوات مشدودة غير مفصلية. كل يوم نفس المشهد. كل يوم نفس الحركات. لم يكن يعرف أحد خلفية هذا الرجل الثمانيني، حتى نشرت مجلة أتلانتيك (Atlantic) قصته الكاملة قبل أربع سنوات. التي تعود إلى عام 1943م حين اكتشف الوالدان وتحت الصدمة أن طفلهما غير عادي، وقد يكون معاقا عقليا. أشرف يومها الدكتور ليو كانر (Leo Kanner) على توصيف الحالة ليطلق عليها الحالة رقم واحد باسم الأوتزم مرض التوحد العقلي (Case Nr:1). وبذلك أضاف هذا الطبيب هذه الإضافة المعرفية إلى قاموس الأمراض النفسية مجهولة السبب. وبين عامي 1943 و2013 يمضي الزمن ستين عاما ومازال الأطباء في حيرة من توصيف الحالة، هل هو تناذر (Syndrom) لمرض محدد الهوية؟ أو هو عالم قائم بذاته من تصنيف يضم عشرات التناذرات؟ فالمرض بطبيعته الغامضة يتأرجح كما يقول المشرفون على فهمه بين بضع علامات تؤكده، إلى سبع ساعات من المقابلة المكثفة، واستخدام عشرات الأدوات، لمعرفة هل الطفل مصاب به؟ أو هو مرض عقلي مختلف مثل داء أسبرجر (Asperger) الذي ينحو إلى صفات تشابه هذه العلة المتفردة الغريبة. في الجنوب من مدينة بوسطن في شبه جزيرة كاب كود (CapeCod) يوجد معهد متخصص في استقبال الأطفال المعاقين عقليا، والقسم الأكبر منهم المصابون بالتوحد اسمه (إطلالة النهر أو منظر الجدول River View). إنهم لايفضلون إطلاق كلمة (تخلف عقلي) بقدر كلمة ضعف هشاشة وما شابهها. كلفة العلاج السنوي في هذه المدرسة تبلغ 73000 دولار. تقول المعلمة ماورين برنر (Maureen Brenner) التي تعمل في هذه المدرسة إن الطفل أندرو (Andrew) الذي تعافى فيها نسبيا، يرسل لها كل عام بطاقة معايدة يكرر فيها تقريبا نفس الكلمات: كيف أنت؟ كيف حال المدرسة؟ وكم بلغ «كيلومتراج» عداد السيارة الفولفو الحمراء عندك؟ تقول السيدة برنر إن هذا النوع من الأطفال يتسمر في زوايا من العقل لايغادرها، كما في عداد سيارتها، أو أنهم يتحولون إلى عباقرة رياضيات. أو يولعون بمواعيد رحلات القطارات بما يعجز عنه كمبيوتر. أو حفظ علامات المرور بما يتفوقون به على أي شرطي مرور. أو صنف آخر مهووس ببناء الجسور وخرائط العالم. وألحان معينة من الموسيقى بما يخجل بيتهوفن أمامهم. أو بعض منهم ممن يعرف كل صغيرة وكبيرة عن الحرب الأهلية الأمريكية، بما يتعلم على أيديهم مؤرخو الجامعات في هذه النقطة بالذات. إنهم عباقرة في زاوية أقل من أميين في زاوية مقابلة. لايقدرون على تدبير حياتهم اليومية. تقول السيدة برنر إنهم خلائق عجيبة، معظمهم من الذكور، ويبلغ عددهم في المدرسة 40 % ممن تؤويهم هذه المؤسسة باهظة التكاليف. في هذه المدرسة أيضا ولع خاص بأفلام (ديزني) للأطفال، وتعلق السيدة برنر بسرعة نحن لسنا اختصاصيي أفلام ديزني، بقدر ظاهرة استشرت بين الطلبة بعد نجاح أوين (Owen) في النطق، وكان أصم مغلق الحلق، فصوت وأبان، وسبحان من خلق الإنسان فعلمه البيان. كل ذلك حدث من وراء أفلام ديزني للأطفال فلا يستخف الإنسان يوما بأي شيء؟ يقول السيد رون عن ابنه (أوين) بالحرف الواحد (لقد ضاع ابني لقد خسرناه بكل بساطة ولم يعد كما هو)! أما كيف حصل هذا فقصته (ارتدادية) بمعنى النكس، وليس البداية. هنا لم تبدأ حياة الطفل بالأوتزم (التوحد) بل بقي في وضع طبيعي حتى عمر السنتين والنصف. كان يتحرك بصورة معتادة، وبدأ ينطق على الطريقة الطبيعية في تكوين الكلمات (جملة من ثلاث كلمات). كان يلعب بصورة معتادة. وفي أحد تصويرات الفيديو كان والده يلاعبه بالمسايفة فغلب والده فيها. هذا مابقي من الذكريات الجميلة للطفل (أوين)، وخلال شهر اكتملت الكارثة أثناء انشغال الوالد في انتقاله إلى مدينة جديدة، ولكن كيف؟ يقول الوالد بدأ طفلنا يتراجع في إمساكه بالقاموس اللفظي للكلمات، ويفقدها بالتدريج، حتى انتهى الأمر بعد شهر أثناء هذا الانتقال المنحوس لينحبس الطفل في عالم مشدود من كلمة واحدة فقط، يكررها دون أي معنى: عصير.. عصير.. عصير.. (juice)؟ صعق الوالد للفاجعة وترك كل شيء ظهريا، وانطلق من عيادة طبيب الأطفال، إلى مختص السلوك، إلى باحث الجينات، إلى علم الأمراض الوراثي، كلهم كانوا حيارى فيما حدث للطفل. كانت كلفة السنة الأولى للوالدين كارثة بمبلغ 90000 دولار!