في الوقت الذي تُدمر فيه المتاحف والآثار استكمالاً لعمليات إبادة الشعوب وحضاراتها، يأتي كتاب سسيولوجيا الحضارة الكنعانيّة – الفينيقيّة، للعميد الدكتور فردريك معتوق كقطعة أثريّة نادرة تُقلبها بشغف المعرفة وأسئلتها، الكتاب الذي جاء ضمن سلسلة اجتماعيات عربية صادرة عن منتدى المعارف في بيروت، برعاية محمد جاسم السدّاح من الكويت، تأتي فكرته من «حادث غير متوقع» كما يذكر المؤلف، حيث اكتشف مع أبناء قريته «مغارة مدفنيّة يعود تاريخها إلى نهاية العهد البرونزي «1200 ق. م» أي إلى العهد الفينيقي الأول»، مما دفع الباحث لأن يخوض غِمار عمليات بحثيّة دقيقة ومُضنية، قد بدت مُستحيلة في بدايتها. ميزة هذا البحث هو عبوره من جمود المكتشفات الأثرية، إلى حركة التاريخ والثقافة والمجتمع من خلال تقديم قراءة عميقة تحليلية ومعرفيّة، بلغة انسيابية مشوقة. تقودك أحد العناوين الفرعية في الكتاب: «البروباغاندا الإغريقية الرومانية المعادية» التي تُشبه في مفارقة مُثيرة «البروباغاندا الهوليودية» إلى عبور صفحات البحث بعينٍ تُبصر وتستبصر بين السطور التي رُصدت في 255 صفحة تضم عشرة فصول، تبدأ بعرض آليات صمود الحضارة الكنعانية، رغم كل عمليات التدمير المتكررة التي تعرضت لها مُدنها. فمن الدلالة التي توحي بها تسمية الإغريق للكنعانيين بالفينيق -أي الرجال الحُمر- إلى عمليات التثاقف التي تعرّض لها الكنعانيون من خلال التجارة، والهجرات، ونحوه، التي دفعت بهم لتكوين حضارتهم، التي لم تكن لولا وعي ثقافي وخبرة واسعة استطاعوا من خلالها احتواء الآخر بدلاً من مُحاربته. أيضاً يعرض البحث من خلال قراءته السسيولوجيا إلى المجال الحيوي الكنعاني، طبيعة الحياة التي عاشها الكنعانيون، سياساتهم، معتقداتهم، علومهم الزراعية والبحرية والطبية، أمراضهم، اقتصادهم، تأسيسهم للثورة المعرفيّة التي ما زالت البشريّة تُدين لهم بها من خلال اختراع الأبجدية ودلالاتها، وكل ما له علاقة بتأسيس حضارة امتد تأثيرها الثقافي من آسيا الوسطى والجزيرة العربية، إلى إفريقيا وأوروبا. يختتم الباحث الكتاب بثنائية نقديّة ل«ما عليهم، وما لهم» من حيث ما أُشيع عنهم من مقولات مثل عدم إنتاجهم للأدب، ومُحافظتهم على التقليد الديني وعدم إنتاجهم للتفكير الفلسفي، على الرغم من ظهور عدد من الفلاسفة لديهم مثل العقلاني طاليس، والرواقي زينون، ومبررات ذلك. وكيف شكلت تلك الميزات «الهابيتوس الكنعاني» أي نظام الاستعدادات المعرفيّة الذي ما زال ماثلاً في أبناء تلك الحضارة إلى يومنا هذا من خلال بنيتهم المعرفيّة المستدامة ممثلة بالإيمان، والبيت، والربح. تعطي الحضارة الكنعانية هنا مثالا لرسوخ البنى المعرفية لدى الشعوب، وإن تمظهرت بعلامات التقدم!