طالعتنا مؤخراً اثنتان من كبريات الصحف اللبنانية «السفير» و «النهار» بمقالين متشابهين في الشكل و المضمون. الأولى لرئيس تحرير صحيفة السفير طلال سلمان في زاوية «على الطريق» في عدد الإثنين 2012/2/13، تحت عنوان «أصحاب الجلالة و السمو يصادرون الربيع العربي». و الثانية في النهار لأمين قمورية في عدد الأربعاء 2012/2/15، بعنوان «الوجه الآخر للربيع». المقالان المتشابهان في التسلسل الفكري المطروح فيهما، تناولا ما يسمى ب «الربيع العربي» من منطلق أن مثل هذا الربيع قد «صودر» و هو الذي لم يكمل مخاضه بعد، من قبل « دول الخليج» التي وضعت كلتا يداها على قرار الجامعة العربية، و بالتالي و كأن هذه الدول قادت قطار الربيع العربي للانحراف عن مساره الصحيح. المقالان (وجها العملة الواحدة) والتي كانت عبارة عن عملة «زائفة»، يبدآن بالتحسر على واقع جمهوريات الخمسينيات و الستينيات العربية، التي بدأت تتهاوى أنظمتها القمعية و التوليتارية بما يشبه لعبة الدومينو. و كأن هذه الجمهوريات ما هي إلا جمهوريات «موز» جديدة و لكن بنسخة عربية عن تلك اللاتينية. جمهوريات لم تصدر الموز في حياتها أبداً، لكنها حتماً صدرت جمهورياته.ينتقل بعدها الكاتبان إلى الغمز من قناة «دول الخليج» بالإشارة إلى «انتهازيها» و سرقتها ل «لحظة التغيير» الحالية التي تمر بها المنطقة. فيشير الأول إلى أن النظام السوري وفَّر بحملته الدموية ضد معارضيه «الفرصة» أمام الأنظمة الملكية العربية (لأن تركب موجة الربيع العربي). في حين قال الآخر في تعبير مشابه «لا شك في أنه لو لم يوفِّر أصحاب السيادة و الفخامة الرؤساء الجمهوريون «الفرصة» بفشلهم و غيهم الدموي ضد معارضيهم و شعوبهم، لما أتيح لأصحاب الجلالة و السمو «فرصة» ركوب حصان الربيع العربي، و «التسلل» إلى موقع القيادة و وضع اليد على الجامعة لإدارة شؤون الأمة و توجيهها نحو التغيير». يضيف الكاتبان ومن نفس السياق الفكري المتصل و»العجيب»، أن التدخل الخليجي ما هو إلا «انقلاب» على الربيع العربي الحلم. يقول سلمان «انقلب الربيع العربي الذي جاء قبل التوقع، ومن دون مقدمات تبشر به، على الناهضين به من شباب الأمة المقاتل من أجل التغيير. صار الوطنيون والعروبيون والتقدميون من أهل الماضي. وتقدم من كانوا موسومين بأنهم رجعيون وغاصبو سلطة بالسيف ليحاسبوا شركاءهم السابقين، الذين كانوا يخافونهم وينافقونهم ويرسلون إليهم أبناءهم ليتعلموا فن السياسة». في حين يقول قمورية «الوطنيون والتقدميون والإصلاحيون الذين ناضلوا من أجل التغيير صاروا هم الماضي وصار الرجعيون والمحافظون والمبشرون بالعودة إلى الخلافة والدولة الدينية هم المستقبل، فانقلب الربيع على من بشر به ودعا إليه». و يفسر الكاتبان هذا التدخل الخليجي أنه لم يكن ليتم لولا دافع «الانتقام» الخليجي من جمهوريات «الموز العربي»، التي أطاحت بأنظمة ملكية عربية مشابهة في الخمسينيات و الستينيات من القرن الماضي. يقول سلمان صراحة على لسان السلفيين و الإسلاميين الذين وصلوا في أكثر من قطر عربي و عبر «صناديق الاقتراع» بدعم خليجي كما يتوهم «جاءت لحظة الانتقام من بدعة العروبة التي جاءتنا من الغرب، لقد حكم أولئك الذين ثارت عليهم الجماهير، طويلاً، وآن أن تطوى أعلام العروبة، وأن يستأنف الحكم بالدين الحنيف مسيرته التاريخية». بينما يردف صاحبه قمورية بالقول في مقاله «الرديف» «حتى هذه اللحظة يبدو الربيع العربي في بعض وجوهه شكلا من أشكال الانتقام من مرحلة الخمسينيات والستينيات حين انقلب الجمهوريون آنذاك على الأنظمة الملكية والفكر القديم بذريعة بعث العروبة وإطلاق الأفكار المعاصرة». ينسى طلال سلمان الناصري القديم و الذي يقول «خلا الجو أمام مؤسسة كانت «هامشية»، ونعني مجلس التعاون الخليجي، للتقدم إلى موقع القيادة متسلحاً بفشل الأنظمة الجمهورية التي صيّرها قادتها إقطاعيات عائلية»، ينسى أو يتناسى أنه وفي عام 1963، وفي عز ثورة الشعارات الناصرية و القومية، أنه «لجأ» لسوء حظه إلى إحدى دول تلك المؤسسة الهامشية، و نعني هنا الكويت، و أصدر مجلة «دنيا العروبة» بإيعاز من عميد الصحافة الكويتية عبد العزيز المساعيد «رحمه الله».كما «يتناسى» سلمان أنه و قبل بعث ما يسمى ب «الربيع العربي» بعشرين عاما، ساهمت إحدى دول تلك المؤسسة «الهامشية» و التي تسمى بالمملكة العربية السعودية، في إيقاف عجلة الحرب الأهلية اللبنانية والتي عانت فيها بلاده لما يزيدعلى الخمسة عشر عاماً. حتى أن تلك الاتفاقية التي أقرها الأفرقاء اللبنانيون المجتمعون في مدينة الطائف غرب المملكة عام 1989، و المعروفة باسم «اتفاق الطائف»، أضحت بمنزلة الدستور «الجديد» الحاكم بأمره في بلاده. تلك الاتفاقية «عمليا» صارت ناسخة لما جاء قبلها في دستور الاستقلال الأول. إن مثل هذا الحقد الدفين على كل ما يتصل بما هو خليجي في نظر البعض ممن يوصفون ب «النخبة المثقفة» في عالمنا العربي، ما هو إلا نتاج ما يسمى ب «العمى الثقافي» بحسب تعبير الدكتور عبد الله الغذامي في معرض تحليله عبر قناة العربية لما صدر مؤخراً عن الشاعر السوري أدونيس الذي انتقد الثورات العربية الأخيرة و شبه الإخوان المسلمين الذين تصدروا مشهدها بالفاشيين. يقول الغذامي عن تلك الحالة «صاحب العمى الثقافي هو شخص يرى العالم وفق معياره هو، وإذا تغير العالم إلى معيار آخر أو سلوك آخر مختلف عن سلوك الذات المثقفة، تبدأ هذه الذات بالسحق والمحق والتقليل من شأن الطرف الآخر». و يضيف الدكتور الغذامي شارحاً معاناة أدونيس و أمثاله سلمان و قمورية و آخرون «الكون من حولهم تغير، ولم يتغير لديهم هم كقادة للتفكير والتغيير، وهو عاجز أن ينظر إلى هذا المتغير، ولم يدرك أن الرأي العام الجماهيري هو المتشكل الآن». و يقول «يجب أن نحترم قرار الرأي العام الشعبي والجماهيري، ولا يصح أن أسمّي الديمقراطية ديمقراطية إلا إذا جاءت بالنتيجة التي أريد، أما إذا جاءت بنتيجة أخرى مختلفة عن مرادي أقول إنها ليست ديمقراطية وأنها زيف». و يتابع الغذامي وصفه لأدونيس و الذي أراه ينطبق على نفس الكاتبين «قلت عنه سابقا إنه يمثل الحداثة الرجعية، وهو يمثلها فعلاً، والآن يتكلم باسمها، ويريد العودة إلى زمن مضى به مسيطر، إما مسيطر سياسي أو طاغية ثقافي».إن مثل هذه «الانتلجينسيا» العربية كانت على الدوام تحمل تصورات نمطية ضيقة تجاه دول الخليج العربي، و تختزلها في مجرد كانتونات نفطية هامشية. لذلك كان من الصعب عليها رؤية مثل هذا الحراك السياسي الخليجي، و الذي بات يقود دفة الأمور في الوطن العربي، و لكن حتما نحو الأصلح.و حتى تكتمل الصورة لدينا لنغمض أعيننا للحظات و نتخيل أنه في مثل هذه الظروف الحالية التي تمر بها منطقتنا العربية لم يقيض لها الله قيادة عربية «حكيمة» كما هو الحال مع دول مجلس التعاون الخليجي، قيادة «قادرة» على انتشال الأمة مما تعيشه راهناً من أوضاع باتت كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج . فقط لنغمضها للحظات، حينها سنتخيل المشهد الجديد كيف سيكون!! طلال سلمان أمين قمورية