من السهل على المواطن أن يقوم بمقابلة أعلى المسؤولين في هذا البلد، حتى لو كان هذا المواطن عادياً مجرَّداً من كل الألقاب. فأذكر أني في نهاية المرحلة الثانوية حضرت أكثر من جلسة لولي العهد السابق الأمير نايف بن عبد العزيز – رحمه الله – عندما كان وزيراً للداخلية، وكان بإمكاني أن أقول له ما أريد ويدي في يده، حتى إن بعض كبار السن الذين لا يلتزمون بالنظام ويريدون الحديث معه بشكل عشوائي يؤمَر الحرسُ بعدم منعهم، مع أن طريقتهم ليست مناسبة، ويترتب عليها أن يستغرق الأمير وقتاً أطول، إلا أنه مع ذلك يستمع إليهم باسماً، مع أن بعضهم يرفع صوته، ويقول أشياء لو قالها في بعض دوائرنا الحكومية لأُمِرَ به أن يودَع في السجن، ولعلي لا أبالغ إن قلت إن مقابلة هذا النوع من المسؤولين هي أسهل كثيراً من مقابلة غيرهم، خصوصاً إذا ما أتوا إلى مناصبهم بطرق مشبوهة، غير أني فوجئت بأحدهم حين أخبرني بأنه يتمنى مقابلة سمو ولي ولي العهد الأمير محمد بن نايف، ليحدثه في قضية معقدة أو أُريدَ لها أن تكون كذلك رغم بساطتها، وحين تحدثت معه أكثر عرفت أنه سعودي بلا هوية أو (بدون)، مع تفضيلي للتسمية الأولى، إذ لا يُعقل أن يوجد إنسان بلا وطن، كما أن كلمة (بدون) يجب أن تُطلق على إنسان مشرَّد أو لاجئ دعته الظروف لأن يتخلى عن جنسيته الأصلية ويبحث عن جنسية أخرى، أما الإنسان الذي اختلطت عظام أجداده بتراب هذا الوطن فمن المُفترض ألا يقال عنه (بدون)، وقد يكون محروماً من الجنسية لأسباب لا دخل له فيها، أو بسبب خطأ بسيط أو تفسير خاطئ للنظام، وكم من الأخطاء الصغيرة لا نلقي لها بالاً، مع أننا لو علمنا بما سببته من شقاء لغيرنا لاستغفرنا الله طوال حياتنا وما ظننا أن سيُغفَرُ لنا، فما أود الحديث عنه في هذا المقال هم المواطنون الذين لم يُمنحوا جنسية إلى الآن، رغم أن كل الدلائل تُشير إلى أنهم سعوديون، ولا أدري لِمَ تُؤجَل ملفاتٌ من هذا النوع، مع أن كل تأخير تترتب عليه قصصٌ طويلة من المآسي والأحزان، ولحظاتٌ من الضعف والانكسار، وما من يوم تطلع فيه الشمس إلا استقبلوا فيه حظهم من العذاب. لا أعرف كثيراً عن شروط الحصول على الجنسية السعودية، كما أن معلوماتي عن القبائل والأفخاذ والأحلاف ليست كافية، غير أني متأكد أن هنالك أشخاصاً ليس لهم وطن إلا السعودية ومع ذلك فنظام التجنيس لم يسعهم، كمن ولدوا لآباء عسكريين عملوا في دول خليجية مجاورة، ولما وصل آباؤهم إلى سن التقاعد؛ حزموا حقائبهم عائدين إلى أرض الوطن، فوجدوا أن الحصول على الجنسية أصعب مما كانوا يعتقدون، وأعقد مما كانوا يظنون، رغم أن جذورهم تعود إلى قبيلة من القبائل المعروفة في السعودية، ومع أن أقدامهم لم تطأ بلداً آخر غير البلد الذي نشأوا فيه، وهذا البلد، فكان أكبر الخاسرين لأبنائهم، ممن لم يشعروا بحجم معاناتهم في بداية قدومهم إلى السعودية، عندما كانوا في مرحلة الصبا، وليس بينهم وبين أصحابهم فوارق مؤثرة، لم يكونوا يشعرون بمعاناة آبائهم في رحلة كفاحهم الطويلة من أجل أن يؤمِّنوا لقمة العيش لهم، ولم يكونوا يدرون أن طريق آبائهم من مدينة إلى مدينة محفوفٌ بالمكاره، حيث نقاط التفتيش المفاجئة، التي لا يجتازونها في العادة إلا بالتمسكن والاستجداء وإراقة كثير من ماء وجوههم، وقد يجدون إحراجاً كبيراً في إبراز هوياتهم المدموغة بختم شيخ القبيلة أو العمدة، غير أن بعضهم ربما كان أكثر حظاً من غيره، بأن منحه شيخُ قبيلته هذه الأوراق بلا مقابل مالي!، خلافاً لما اعتاد أن يفعله بعض شيوخ القبائل الأخرى ممن أثْرَوا على حساب هؤلاء الضعفاء، فلا يوقِّعون إلا بمقابل، ولا يشهدون إلا بمقابل، وكلما كانت الحاجة لهم أكثر كانت طلباتهم أكثر، ولهذا السبب وغيره يُعتقَد أن بعض شيوخ القبائل هم السبب في تعقيد قضايا التجنيس وتصعيب حلها، كي يتاجروا بها أطول فترة ممكنة، للحصول على المال بأسهل الطرق وأيسرها وأقذرها وأكثرها دناءة، ولعل من رحمة الله بالإنسان أنه مهما بلغ به الحرمان فسيجد من هو أكثر حرماناً منه، لكن مشكلة هذا النوع من الناس أنهم يواجهون مستقبلاً من الفراغ، وكلما تقدم العمر بهم أكثر شعروا بأن الكون بدأ يضيق عليهم من كل أرجائه، واستحال الوطن في أعينهم سجناً كبيراً، حتى أن أحدهم أسرَّ إليَّ ببعض مشاعره، طالباً مساعدتي في مقابلة الأمير محمد بن نايف، و قد يبست شفتاه واغرورقت عيناه بالدموع، ثم مضى يجر قدميه وهو موقن أنه أشقى الأشقياء على وجه الأرض.