ليست العادة أن تبرع الكتابة المصطنعة في إخفاء الصنعة، كتابات بهذه الصفة كالكبريت الأحمر شحيحة، ونادرة، تماماً مثل القراءة، التي لا تمنح ذاتها إلا لقارئ حقيقي. الكتابة الجميلة هي حصراً كتابة عفوية، لا تنتج عن سببية منطقية بالضرورة، وإنما تتخذ شكلَ فائضٍ، الكتابة شيء يفيض. هناك امتلاء زائد عن الحدِّ، امتلاء في العاطفة، أو المعنى، يتسرَّب في صورة كتابة، لتبدو كما لو كانت المعادل الأدبي لكائن مكتنز، هو واللغة شيء واحد، أليست اللغة بيت الكائن كما يقول «هايدجر»، أليست هي الوطن البديل؟ الجني الذي يُلهم الشعراء رمز لهذا الاكتناز، الجني العبقري تجسيد لمعاناة تمطر الكاتب بزخم المعنى، محيلة باستمرار الكتابة إلى انفعال، إلى كتابة لاذعة، يمتزج فيها العمق، والفكر، والتلميح، والإشارة، والكلمات المنزلقة على جسد النص، كتابة تكره القراءة الأحادية، والتأويل النهائي، والوضوح الساذج الغبي، كتابة لا تقول الشيء نفسه مرتين. هكذا تبدو القاعدة ببساطة: لكي تكون القراءة عفوية يجب أن تتشبَّع باللغة، واللغة هي الفكر، والصورة، والتأمل، والمونولوج الذاتي الأبدي. إذاً اللغة هي الحياة بصفتها قراءة، فنحن إذ نعيش نقرأ علامات مغمورة في ضبابها الأزلي، الحياة ضرب من القراءة، والكاتب البارع هو وحده الخيميائي الذي يجترح دوماً معجزات التحويل، كائن كتابي يعيش على طريقة «أوفيد»، يمسخ الكائنات ليحيلها إلى نص مكتوب. سماء الكاتب تمطر كتباً، على هذا النحو ينصح الكاتب الروائي «يوسا»، في «رسائل إلى روائي شاب»، بعقد حلف مقدس بين تعب القراءة، ومتعة الكتابة.. لكي تصبح الكتابة بالحقيقة لا بالمجاز. يؤكد يوسا على إحالتها إلى نمط حياة قائم بذاته، يعيش الكاتب لكي يكتب، وليس العكس، أستطيع تأويل نصيحة يوسا بصفتها دعوة ل «أنطولوجيا الكتابة» والكاتب الذي أخاله في تصور يوسا، وقد انقلب إلى «دودة كونية»، إذ يمتص الكون لكي يقذف نصوصه إلى العالم، يصبح هو ذاته عالماً متفرداً، له كينونة مستقلة، لا بل أكثر، ليس هذا العالم سوى مخطوطة «هيروغليفية» يترجمها الكاتب إلى لغة، يزيل غموضها، وطبيعتها المعجمة، يمنحها شرف التأويل. الكاتب يكتب العالم. ليس الكاتب إذاً سوى بطل إغريقي منهمك في إنجاز مهماته الهرقلية، الكتابة أخطر مغامرة، وأعقد لعبة، لا تتسم بأي سمة وسطية، الاعتدال سخف لا يليق بالكاتب، إما أن تكون الكتابة خطراً، أو لعبة، فلسفة، أو شعراً، لكنها في جميع حالاتها رغبة عصيَّة على الإشباع، رغبة عنيدة. ربما لهذا السبب يحذرنا «يوسا» من التشويه، والتزييف، والدخلاء. الكتابة «أرستقراطية» في جوهرها، تنحط حين يتم اغتصابها كبضاعة تدر ربحاً، ومكاسب، لا يكتب الكاتب بحسب يوسا للارتزاق، الكاتب المرتزق يخون، ويغش ذاته، والمتلقي، والنص، هذا الكاتب التجاري يمسخ الكتابة إلى ما يشبهها، إلى تكلُّفٍ، أو صنعة. اصطناع محض لا ينطلي إلا على شبيهه «القارئ التجاري». اغتصاب الكتابة عبر الاتِّجار بها يتزامن مع سلسلة من الاغتصابات: اغتصاب الفصل التعسفي بين الشكل، والمضمون، اغتصاب التسمية، والجنس الأدبي، والتنميط، والهوية، كلها اغتصابات ناجمة عن ذلك المرض المنتشر المتمثل في «سيلان الكتابة»، واستسهالها، وامتهانها إلى الحد الذي باتت فيه مهنة من لا مهنة له. أما «ماريو مارجاس يوسا» فإنه يخبرنا مؤكداً أن الكتابة، والارتزاق نقيضان لا يلتقيان، ثمة قدر لعين يحيط بالكاتب، «قدر مصيري يجب أن يتحوَّل إلى عبودية»، الكتابة مثل الدودة الزائدة تتحد بالكاتب، وتنمو، وتشتد على حسابه، والكاتب شهيد النص، وخادمه، يلحُّ يوسا على هذا «الانئسار الأسطوري»، إن النص جسد منافس للجسد، لا ينمو أحدهما إلا على حساب الآخر.. وبهذا الشكل يستطرد يوسا: «يروقني وضع الكاتب، بحال صديقي خوسيه ماريا، حين كان يحمل الدودة الوحيدة في داخله، فالميل الأدبي ليس تزجية للوقت، وليس رياضة، ولا لعبة راقية، تمارس في أوقات الفراغ. إنه انكباب حصري، وإقصائي لما عداه، وشأن له أولوية لا يمكن أن يُقدَّم عليه أي شيء آخر، وعبودية مختارة بحرية، تجعل من ضحاياها «ضحاياها المحظوظين» عبيداً.. يتحوَّل الأدب إلى نشاط دائم، إلى شيء يشغل الوجود، ويستغرق الساعات التي يكرسها أحدنا للكتابة، ذلك لأن الميل الأدبي يتغذى على حياة الكاتب». بهذا الشكل تزاحم الكتابة كل الانشغالات الأخرى، المتع الأخرى، اللذائذ الأخرى، تحضر الكتابة، ويغيب سواها، تتضخم كسلوك «هوسي»، لتفرض شكلاً «نزوياً» متسامياً، حب نرجسي دون «غيرية»، أو جسد، إذا جاز التعبير. لكنها أيضا تمنحنا مقابلاً، تغدق علينا جوائز الخلق، وتكميل ما لا يكتمل، يقول نيتشة: «ليس الفن محاكاة للطبيعة، بل المكمل الميتافيزيقي لها، المنتصب إلى جانبها لكي يتغلب عليها». الكتابة بصفتها فناً – وأنا هنا لا أميز بين أجناس أدبية، فما هي إلا مسميات تحجب سمة التفرد والتشكُّل اللانهائي – إنما هي إضافة، وليست محاكاة كما كان يظن «أرسطو»، شيء جديد تنتجه ليكتسب به العالم دلالة جديدة.. لا تكرر العالم، وإنما تضيف إليه، لا بل تلتهمه.. ولقد قالها ذلك الأديب السادي في يومياته: «الأدب سلاح ضد اعتداءات الحياة».