كنت مع أحد الأصدقاء في مجمع تجاري، وكان من الملتزمين حديثاً، فلما نظر إلى أحد القِطَعِ المعروضة في المحل انعقد حاجبه وتغير لونه واكفهر وجهه، ثم نادى أحد العاملين في المحل محتجاً على عرضها، فقلت: هل تعرف ما هي؟!، قال: لا، ولكن: من الواضح أنها حرام!، صديق آخر يقول: أتيت مرة بعرائس بنات صغيرات لأبيعها في المحل، وكانت من النوع المطموس وجهها، بحيث كانت ملامحها غير واضحة إلى درجة أنها قبيحة المنظر، بل مرعبة، فلا تكاد تقع عليها عين الناظر إلا انصرفت عنها بسرعة، ومن المؤسف أنها مكثت في المحل فترة طويلة، ولم أبع شيئاً منها، ثم حُوِّلت إلى المستودع ومنه إلى الحاوية!، مع العلم أن المدرسة الفقهية التي تُحرِّم هذه الأشياء تستثني ألعاب الأطفال استدلالاً بحديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، غير أن بعضهم على ما يبدو غالى في التحريم، فلا يكاد يجد فسحة في الدين إلا عمل على تضييقها، معتقداً أن الوَرَعَ يعني تحريم كل شيء! كثير من الأشياء تُقدَم للشباب على أنها من المقطوع بحرمتها، وأن من الواجب عليهم محاربتها ونبذ الواقعين فيها، وإذا كان من المستقر في أذهانهم أن تحليل الحرام كفر -مع اعتقادي أن القليل منهم يعرف أن هذه القاعدة صحيحة فقط حين يكون الحرام بيِّناً كالزنا والربا وأكل أموال الناس بالباطل- فإنه يصير كارثياً حين يتم التعصب لرأي دون آخر، أو يكون التعليم مبرمجاً على أساس الأخذ برأي واحد، من غير أن يُشَار إلى أن هناك أقوالاً فقهية ترى غير ذلك، ولو كانت تلك الأقوال محترمة وقائمة على الدليل أيضاً، المشكلة تأتي حين يتم توسيع دائرة الحرام لتشمل أشياء خلافية، حتى ليخيل إليك أن الأصل في الأشياء التحريم، أو أن يُقدَم رأيٌ فقهيٌ على أنه صحيح وما عداه خطأ وضلال، ثم يُتعصَبَ لهذا الرأي ويُدرَّسَ للشباب على أنه حق وما سواه باطل، وإذا كان من القواعد المقررة لدى الشباب أن استحلال الحرام كفر، فمن الطبيعي أن يتصرفوا بناء على ذلك، وينشأ جيل متطرف يكون بين نقيضين، إما أن يسرف في التكفير واستحلال الدماء، وإما أن يلحد والعياذ بالله! بغض النظر عن الطريقة التي سلكها المحتسبون في معرض الكتاب، وإذا افترضنا جدلاً أن ما تقوم به الهيئة من نصح الناس علناً والتغيير بالقوة جائز من الناحية الشرعية والقانونية، فإني لا أملك سوى أن أتعاطف مع الإخوة المحتسبين في معرض الكتاب، إذ لا أجد فيما فعلوه خارجاً عن السائد، ولا مخالفاً لما هو مألوف عن الحسبة، فالهيئة كما نعرف هذه طريقتها وليس من منهجها نصح الناس فقط ثم ترك الاختيار لهم في القبول أو الرفض، إنما يحق لها استخدام القوة حتى في الأمور الخلافية، كتغطية الوجه وإغلاق المحلات في أوقات الصلاة وغيرهما، مع العلم أن الأدلة على التحريم هنا قد تكون أقوى في نظرك لكنها ليست كذلك في نظر غيرك، وليس الاحتجاج على تحريم هذه الأشياء بقدر ما هو احتجاج على إلزام الناس برأي معين، ومعاداة الآخذين بغيره، ممن فهموا الدليل بشكل آخر قادهم لاستنتاج آخر، المهم أن نلتزم بما ندعو الناس إليه نظرياً ونخالفه عملياً فنقول لهم: «لا إنكار في خلاف»، فإن صَدَّقَنَا أحدٌ وأتى برأي جديد بدَّعناه وفسَّقناه وألَّبنا الغوغاء عليه!، ولا أدري لِمَ تُثَارُ كل هذه الضجة على تصرف الإخوة المحتسبين في معرض الكتاب، في حين يُتعامل معه بشكل طبيعي لا يخلو من الإعجاب والدعاء في غيره من القضايا اليومية؟!، فإذا جاز للمحتسبين استخدام القوة في تغيير ما هو أقل بكثير من قضية التماثيل جاز لهم استخدامها فيما أُخبِروا أنه مقطوع بحرمته وأنه بمنزلة الأصنام التي تُعبد من دون الله!، ولو أنصفنا لاعترفنا أن ليس لهم من ذنب سوى أنهم مخلصون، فكل ما فعلوه أنهم حوَّلوا ما تعلموه نظرياً إلى ممارسة فعلية، واللوم لا يقعُ عليهم بقدر ما يقع على الذين تعصبوا لآراء معينة ثم فرضوها على الناس كثوابت، فكان حالهم مع الشباب كمن: ألقاه في اليم مكتوفاً وقال له… إياك إياك أن تبتل بالماء