تسير واقعة الجنادرية في سياق من الأحداث المتشابهة، وهي اعتراض فئة على ممارسة عامة ورسمية، وغالبا ما يكون الفن والمرأة (أو أحدهما) هو مكمن الاعتراض، الذي بدأ يأخذ وتيرة متصاعدة من حدة التعبير. عادة ما يتحمس الشباب في التعبير عن مشاعرهم، بأجسادهم مباشرة، تقودهم طاقات تم شحنها من أطراف لا يتورطون بأنفسهم ولا يورطون ذويهم في المواجهات المباشرة. ممارسة العنف – بشتى أنواعه – في الاختلاف هو من أشد المخاطر على نسيج المجتمع الواحد، وعادة يكون له نسق واضح، فبين محرض يتلاعب بالعواطف، وشاب متحمس، وموضوع مثير للجدل، تكتمل تركيبة قنبلة الغضب، التي لا تحتاج لانفجارها سوى شرارة. العاطفة التي تلغي العقل لن تترد يوما في استخدام العنف بشتى أنواعه، فهي تعمل بذهنية الحرب، خاصة إذا كان هناك من احترف قيادة الفيالق، واستمرأ خوض المعارك منذ زمن طويل حتى صار خبيرا فيها، دون إغفال المكاسب والغنائم التي يجنيها. كثير من اختلاف الآراء التي نتابعها الآن في مختلف وسائل الإعلام والتواصل الإلكتروني، تمارس عنفا شرسا يكاد يصل درجة تصفية الخصم، بدءا بالشتم والسب، وانتهاء بهدر الدم، مرورا بالعديد من مظاهر العنف، الذي لا يتورع عن ممارسة أقبح وأقذر أنواع الأسلحة، بما فيها تلك الأسلحة المحرمة. يبتكر الإنسان أسباب السعادة حتى لوضاقت عليه سبل العيش، فمن الأنس جاءت كلمة الانسان، وما الأنس إلا الفرح. فما بالنا نضيق على أنفسنا، ونهدر فرص الفرح والسعادة بحجج لا يقبلها العقل. يطلق على مجتمعاتنا العربية عموما أننا عاطفيون، وهي عبارة ليست بريئة تماما، إذ يمكن أن يختبئ في طياتها، تعطيل أو غياب العقلانية، لكن ما يهمني هنا هو مآل العاطفة عندما لا تنطلق من الحب والفرح، ولا تجد أمامها إلا الكراهية متنفسا، إلى أين ستأخذ المجتمع وأهله؟ لا أشك في أن الناس يميلون في الأصل إلى الفرح والحب والجمال، وينبذون عكس ذلك، ولكن ثقافة المجتمع تهيمن وتتحكم وتعيد صياغة المفاهيم لدرجة أن تقلبها رأسا على عقب، ففي حين نرى مجتمعات تبحث وتفتش عن وسائل لنشر الفرح والحب والجمال، نجد أن مجتمعنا على النقيض. المجتمعات المنسجمة هي التي تنطلق من مكونات وجدانية متآلفة، وما يصنع ويوحد الوجدان الاجتماعي هو انخراط المجتمع بأطيافه في الفرح والحب، والمناشط الثقافية والفنية تعتبر من أهم وسائل صياغة الوجدان المشترك. لهذا تبتكر المجتمعات أعيادا تلو أخرى، وتخترع فرصا للاحتفال بالحب، وتصنع وسائل مختلفة لزراعة الفرح، أما المجتمعات التي تتراخى وتتأخر عن ذلك، عادة ما يخيم عليها النفاق بعد أن ينخرها القبح، الغضب، الحقد والعنف، ويأكل أبناءها الخوف. في مجتمعنا تحول الفرح إلى شأن فردي خاص ومعزول، يمارسه في صناديق محكمة الغلق، حتى لا يتم التشكيك في صحته وصلاحه، لو مارسه في الأماكن العامة، وهكذا يتضاءل الفرح في حياتنا وينكمش حتى يستغفر الواحد منا تائبا لو ابتسم وفرت منه ضحكة علنية.