احتضنَ الغربُ الفارِّين من العربِ من ذوي الفكر الديني المتطرِّف المدَّعين معارضةً لحكوماتِ أوطانهم، والمنادين زيفاً بالعدالة الاجتماعيَّة وبالديمقراطيَّة، وحماهم من عدالة بلادهم في ضوء الاتفاقيَّات الدوليَّة؛ وذلك بحجَّة حماية حقوق الإنسان، مقدِّماً لهم تسهيلاتٍ إجرائيَّة وماديَّة؛ لا لاقتناعه بمظالمهم وبمطالبهم ولكن لاستخدامهم ضدَّ أوطانهم في الوقت المناسب وفي القضايا المناسبة، مُهيِّأً لهم اللجوءَ السياسيَّ. وحفزَ الغربُ العربَ المتطرِّفين فكراً دينيّاً للتوجُّه لأفغانستان والشيشان والبوسنة والهرسك للجهاد ضدَّ حكوماتها ونفوذِ الاتِّحاد السوفيِّيتي فيها آنذاك، بحجَّة الحيلولة دون المدِّ الشيوعيِّ والاشتراكيِّ المستهدف أوطانهم، وقد موَّلهم الغرب وسلَّحهم ودفع أوطانَهم لذلك، مع علمه من خلال إستراتيجيَّاته، بأنَّهم سيتدرَّبون عسكريّاً على الأسلحة المتطوِّرة وعلى حروب العصابات، وسيعود ناجوهم من حروبهم نيابة عنه لأوطانهم مجاهدين حكوماتها وشعوبها، ولكنَّ ذلك لا يعنيهم بل إنَّهم يخطِّطون له؛ لأنَّه سيفتح أسواقاً لأسلحتهم وميادينَ لتجريب المطوَّر منها، وسيمدُّون نفوذَهم من خلاله إليها باتِّفاقيَّات وقواعد عسكريَّة فيها لحمايتها من العائدين من ساحات الصراعات الخارجيَّة، ولتقديم استشارات عسكريَّة تخلُّ بسيادة أوطانهم وتمكِّنهم من الهيمنة عليها، وكلُّ ذلك لتحقيق مخطَّطاتهم الإستراتيجيَّة لتقسيم أوطانهم لإضعافها، ولتوازن القوى مع دولة الصهاينة، ولضرب روسيا في دول نفوذها. وسعى الغربُ من خلال استخباراته المجنِّدةُ عملاءَ من أوطان المتطرِّفين لتنفيذ مخطَّطاتها فيها، فدفعتْ شعوبها لثورات على حكوماتها بحجَّة المطالبة بالعدالة الاجتماعيَّة وبحريَّة التعبير وبالديمقراطيَّة؛ استهدافاً لمقدَّراتها وثرواتها الطبيعيَّة، وترجم الغربُ مساعيه تلك باستثارة الصراعات الطائفيَّة والنعرات العنصريَّة، تخطيطاً لنقل السلطات من حكوماتها السنيَّة لحكوماتٍ شيعيَّة طائفيَّة، فداهنَ إيران كدولة إقليميَّة بتركها تبسطُ نفوذها في اليمن والعراق وسوريّا ولبنان وغزَّة وتتدخَّل في دول الخليج، فأطالت أمد مفاوضاتها حول برنامجها النوويِّ لتحقِّقَ أهدافه كمؤثِّرٍ بنفوذها، وكتركيا لتبسط نفوذها في العراق وسوريّا وغزَّة وليبيا بتمرير تسلُّل المتطرِّفين والأسلحة إليها لقاء تمريرها لخطط الصهاينة في فلسطين وفي دول جوارها. وهيَّأَ الغربُ لشبكات التواصل الاجتماعيِّ ولصحفه أدواراً ومجالاتٍ لنشر التطرُّف والطائفيَّة والصراعات السياسيَّة بحجَّة ضمان حريَّة التعبير، ليصل الأمرُ بصحفهم للإساءة لرسولنا محمَّد عليه الصلاة والسلام وللإسلام؛ فذلك سيولِّد ردَّة فعل من متطرِّفي الفكر الإسلاميِّ تتيحُ فرصاً لتدخُّلاتها، فاستغلُّوا أحداث باريس وبلجيكا وألمانيا وأستراليا لذلك، ولكنَّ الغربَ اليوم يحصد نتاجَ إستراتيجيَّاته انعكاساتٍ أمنيَّة في دوله، أحداثٌ أدانتها دول إسلامية ومؤسَّسات ومجالس إسلامية في دوله، مستنكرة إعادة نشر الرسوم المسيئة وداعيةً المسلمين لضبط النفس والاحتجاج بطرقٍ سلميَّة، بل وانتقد البابا فرانشيسكو بشدة ذلك قائلاً: لا يمكنكَ استفزاز الآخرين بإهانة عقائدهم، فحريَّة الأديان وحريَّة التعبير حقٌّ أساسيٌّ؛ ولكن يجب ممارستهما دون إهانةٍ للآخرين. كما التزمتْ وسائل إعلام غربيَّة بنهجها المهنيِّ الصارم رافضةً إعادة نشر الرسوم المسيئة، فعلَّقتْ على رسومات شارلي المسيئة للرسول عليه الصلاة والسلام بقولها: حريَّة التعبير لا تعني قيامنا بأي شيء نريده فقط لأننا نملك القدرة على ذلك، بل ووجَّهتْ نقداً لاذعاً لشارلي فوصفتها بالمجلَّة الغبية؛ معتبرةً أنَّها لا تدافع عن حرية الرأي والتعبير؛ بل إنَّها توجه ضربةً لهما باستفزاز المسلمين، ووجد رفض تلك الصحف وانتقاداتها لشارلي ترحيباً من مسلمي الغرب ومن الدول الإسلاميَّة. وقد حذَّرت دولٌ إسلاميَّة وعلى رأسها بلادنا من التطرُّف الفكريِّ والدينيِّ منذ أكثر من عقدين؛ ولكن ما كان الغرب ليأبه بذلك؛ فمعاداة الساميَّة إستراتيجيَّة غربيَّة أُنْتِجَتْ لتجريم معاداة اليهود، وبالرغم من أنَّ العرب ساميُّون ولكن معاداتهم لا يجرِّمها الغربُ؛ لذلك نجحت إسرائيلُ في التخفِّي وراء مصطلح معاداة الساميَّة، في حين فشلتْ الدولُ الإسلاميَّة باستصدار قانونٍ دوليٍّ يضع تحت طائلة المساءلة القانونية كلَّ مهينٍ للإسلام ولرسوله عليه الصلاة والإسلام ورموزه الدينية وكتبه المقدسة ومقدَّساته؛ وهو ما يُعَدُّ ضروريّاً هذه الأيَّام لكبح صدامات أكبر لا يمكن التنبؤ بعواقبها. فبعد أحداث التطرُّف الأخيرة في أوروبَّا ذاتها، وتهديد متطرِّفي دول الربيع العربيِّ بنقل غزواتهم إليها، تنبَّه الغربُ لأخطائه في إستراتيجيَّاته ومخطَّطاته، ليبدأ بإجراءات تتعلَّقُ بمراقبة حريَّة التعبير في شبكات التواصل الاجتماعيِّ وفي صحافته، وبالحدِّ من احتضانه الفارين إليه وحمايتهم، وباستصدار قوانين وإبرام اتِّفاقيَّات تعالج ذلك على مستوى الاتِّحاد الأوربِّي، وباستبدال اتِّهامات بلادنا بمحاولة الإفادة من تجربتها بمواجهة الإرهاب، بل إنَّ الغرب المتفرِّج على ثورات الربيع العربيِّ أخذ بمراجعة إستراتيجيَّاته وانعكاساتها الأمنيَّة على دوله منها.