في الوقت الذي تبحث فيه عن كلمات تحكي الكاتب الكبير جلال عامر -هو أكبر من كل الكلمات- ستجد أنه طبّق مقولة بريخت “راقبَ فم الشعب ونقل لغته إلى مستوى الفن الرفيع”، فأغرقنا في الضحكات الممزوجة بحمم الحزن والبكاء. وهو الذي فهم كيف حام شبح النكبة في فضاء مصر فحوّلها من أم البلاد إلى أم الفساد، وخلّد ذلك بمقولاته التي قال عنها ساخرا “أكثر ما يسرق في مصر هي ألحان بليغ حمدي ومقولات جلال عامر!”. جلال عامر مثل الكاتب التركي الساخر عزيز نيسين كلاهما كان محاربا وكلاهما بدأ الكتابة أو اشتهر متأخرا، الأخير برر ذلك بقوله أن المصادفة والعشوائية هي التي تسيطر على قدر الإنسان وهو يعيش في مجتمعات تحكمها أنظمة متفسخة، والأول ملأ السمع والبصر عبر زاويته في جريدة المصري اليوم وكان حينها قد جاوز الستين “على ذمة عزت القمحاوي” والذي قال معلقا أن هذا يعنى أنه يعيش في بلد غير آمن على مواهب أبنائه، غير راغب حتى في الحياة! مات العربي المصري، ولد مع ثورة يوليو، وعاش انتصاراتها وانكساراتها.. ورحل مع ثورة يناير وهو يردد بدهشة وحسرة “المصريون بيقتلوا بعض!”، لم يحتمل رؤية قوى الجهل والبلطجة تحاول سرقة مصر والثورة وتحول أحلام “الولاد وصبايا البلد” إلى كوابيس، ضاق الزمن على هذا القلب الكبير، ليست هذه مصر التي أحبها وأحببناها، و”هؤلاء، من هؤلاء الناس؟!”، كانت دهشة أخيرة تستحق الوقوف والخلود، اللهم احفظ لنا مصر وأهل ومصر وأعد لنا “مواويلها الشجية في ليالي القمر” وارحم جلال عامر وصبر محبيه وقرّاءه ومصر وأمة العرب على فراقه!