في حين تعرضت فرنسا وأوروبا عموماً أمس إلى صدمةٍ بعد هجومٍ مسلح على مقر صحيفة في باريس خلَّف 12 قتيلاً، وقع المسلمون في القارة العجوز خصوصاً مجموعات الدعوة إلى التعايش والتسامح بين أتباع الديانات تحت ضغطٍ بالغ. ونفَّذ مسلحون صباح أمس هجوماً على مكاتب صحيفة «شارلي إيبدو» الأسبوعية الواقعة في شارع «نيكولا- ابير» شرق باريس؛ حيث دخل رجلان ملثمان يحملان رشاش كلاشينكوف وقاذفة صواريخ إلى المكاتب الموجودة في مبنى يضم شركات أخرى وأطلقا الرصاص. وأسفر الهجوم، الأسوأ في فرنسا خلال العقود القليلة الماضية، عن مقتل 12 شخصاً بينهم ضابط شرطة و4 من أبرز رسامي الكاريكاتير في الصحيفة التي كانت نشرت صوراً مسيئة للإسلام في وقتٍ سابق. وأظهرت لقطات فيديو رجلاً يهتف «الله أكبر» مع دوي 4 طلقات، وبعدها شوهد مهاجمان يغادران المكان بهدوء. وقال وزير الداخلية الفرنسي، برنار كازونوف، إن «3 مجرمين شاركوا في الهجوم الدموي». وأوضح كازونوف، في ختام اجتماع أزمة في قصر الإليزيه الرئاسي في العاصمة الفرنسية، أن «كل الإجراءات تُتَّخَذ للقضاء في أسرع وقت ممكن على المجرمين الثلاثة الذين يقفون وراء هذا العمل الهمجي»، دون أن يذكر أي تفاصيل عن دور كل منهم. وتحوَّل الشارع الذي تقع فيه مكاتب الصحيفة إلى «بحيرات من الدماء» معيداً باريس إلى الأجواء الحالكة لاعتداءات ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي. وغصَّت الشوارع المحيطة بسيارات الإسعاف والإطفاء والشرطة، وقام رجال الإطفاء بمساعدة كثير من الأشخاص الذين أصيبوا بالهلع والصدمة. وأفاد صحفي يعمل في مكتب مواجه لمبنى «شارلي إيبدو» بأن «الجثث تناثرت على الأرض وسط بحيرات من الدماء كما يوجد مصابون بجروح خطيرة». ووقع الهجوم في حوالي الساعة 11.30 (10.30 بتوقيت جرينتش). وروت موظفة بريد أنها كانت في المبنى في طرف الممر المؤدي إلى مكاتب الصحيفة عندما دخل عدد من الأشخاص و «أطلقوا النار لإرهابنا». وقالت شاهدة عيان أخرى كانت تنتظر دورها في مركز لطب العيون على مسافة نحو 100 متر من موقع الهجوم إنها سمعت دوي إطلاق نار ورأت رجال شرطة يركضون فأدركت على الفور أنه اعتداء»، مضيفةً «كان الأمر أشبه بمسلسل بوليسي». وذكر رجل يقيم بالقرب من المكان أنه رأى رجلين يخرجان من المبنى وهما يطلقان النار قبل أن يستقلا سيارة سيتروين صغيرة سوداء انطلقا بها نحو جادة ريشار لونوار. وفي شريط فيديو تم تصويره على بعد عشرات الأمتار عن مكاتب «شارلي إيبدو»، ظهر رجلان مسلحان ببنادق آلية يخرجان من سيارة ويرديان شرطياً عن قرب برصاصة في الرأس قبل أن يلوذا بالفرار وهما يرددان «انتقمنا للنبي محمد». واعتقد شاهد عيان أن المسلحَين كانا من القوات الخاصة، وأوضح «كانا ملثمين ويحملان رشاشات كلاشينكوف أو بنادق إم 16، كان مظهرهما شديد الجدية حتى اعتقدت أنهما من القوات الخاصة ويطاردان مهربي مخدرات، بدا الأمر وكأننا في موقع تصوير فيلم سينمائي». ووصف عشرات الأشخاص الذين مروا بالقرب من المربع الأمني المفروض على موقع الهجوم ما حدث ب «الجنون»، وقال أحدهم «إنها حالة جنون في قلب باريس». وبدا القادة الفرنسيون والأوروبيون وحتى المسؤولون الأمميون مصدومون من الحادث وسارعوا للتنديد به، معتبرين إياه هجوماً إرهابياً طال أيضاً حرية الصحافة والتعبير. وقال الأمين العام للأمم المتحدة، بان كي مون، إن الجريمة مروعة ولا مبرر لها، واصفاً، في تصريحات صحفية أمس، ما حدث ب «هجوم خسيس نُفِّذَ بدمٍ بارد». وهرع الرئيس الفرنسي، فرانسوا هولاند، إلى موقع الهجوم ودعا إلى حماية الوحدة الوطنية وقيم الجمهورية الفرنسية، فيما أعلن البيت الأبيض في الولاياتالمتحدة ورئاسات عدة دول من بينها دول عربية وإسلامية عن التنديد بأشد العبارات لما حدث. ويأتي الهجوم في وقتٍ يقول فيه أوروبيون إنهم يشعرون بأزمة هوية، ويقول الناشط اليساري الألماني، دانيال كون بنديت، إن الخوف من الأسلمة يتزايد في أوروبا عموماً. ومؤخراً، نظمت حركة «أوروبيون وطنيون ضد أسلمة الغرب» المعروفة أيضاً باسم «بيجيدا» تظاهرات ضد «الأسلمة» في ألمانيا. ووضع ذلك المسلمين في أوروبا، خاصةً مجموعات التعايش والدعوة إلى الاندماج في المجتمع الأوروبي، تحت ضغطٍ بالغ؛ فهم على ما يبدو مُطالَبين ببذل مزيدٍ من الجهود لنفي تهمة الإرهاب عن الدين الإسلامي ووقف الحملات الإعلامية والسياسية التي تُشنُّ ضدهم ويزيدها زخماً وقوع هجمات كالهجوم الذي صدم الفرنسيين أمس. لكن دار الإفتاء المصرية دعت إلى عدم التسرع في وإلصاق التهمة بالمسلمين قبل أن تنتهي التحقيقات. واعتبر مستشار مفتي مصر، إبراهيم نجم، أن التسرع في اتهام المسلمين قد يسهم في انتشار الكراهية وموجات العنف والاضطهاد ضدهم في فرنسا. ودعا نجم، في تصريحات صحفية، السلطات الفرنسية إلى اتخاذ كافة التدابير الأمنية لحماية الجالية المسلمة ضد أي اعتداءات متوقعة. وفي القاهرة أيضاً، ندد الأزهر بالهجوم على مكاتب «شارلي إيبدو» ووصفه بالإرهابي والإجرامي. وكان الأزهر أدان قبل سنوات رسوماً مسيئة نشرتها وسائل إعلام غربية، من بينها «شارلي إيبدو»، للنبي محمد -صلى الله عليه وسلم-.