الحيرة حينما تصل بالمرء إلى متاهات ومنزلقات خطرة، يدرك حينها أن المعرفة الحقيقية هي من ستنقذه من التيه والضلال اللذين يتربصان به، والمعرفة لا تتأتى إلا لمن عركته الحياة بمرارتها وقساوتها لتهبه شيئاً من الوعي والإدراك كي يتجنب سوء المصير ببصيرته لا ببصره. السؤال أعلاه موجه إلى كل من يجد نفسه على تخوم الجهل والظلام وحيداً في عالم تمور فيه الفتن مثل أمواج هادرة من كل حدب وصوب وليس في أفقه أي وميض يسعفه لرؤية أبسط الأشياء، فكل ما يحتاجه هؤلاء الحائرون هو جرعة وعي تزيل الغبش عن أبصارهم؛ لأن العيون التي ترى الأشياء تحت تأثير الجهل، هي في حقيقتها أقرب إلى وصفها بالعمى من الإبصار، فالجهل لم يعُد محصوراً في كل شخص غير قادر على القراءة والكتابة كما كان سابقاً أيام الأحواش الطينية وحلقات الكتاتيب، فالجُهلاء في زمننا التعيس من الصعب تمييزهم إذا لم يخوضوا نقاشاً حول مسألة ما، ولا سر وراء هذا التغير الخطير، فكل ما في الأمر أن جاهل هذا العصر واكب حركة التنمية والتطور كبقية الكائنات والأشياء التي تطورت عما هي عليه في السابق تأكيداً للنظرية الداروينية في تطور الأجناس. إن صفة العالِم ليست بالضرورة أن تكون محصورة في رجال الدين دون سواهم وأيضاً ليست بالضرورة أن تكون محصورة في المخترعين أو الفلاسفة أو ضع ما شئت من الصفات والأوصاف الأخرى المغرية، المهم أن نصل إلى قناعة باستحالة وجود عالِم يستطيع أن يجمع كل الصفات السابقة في ذاته من بني البشر. ولكي نقتنع لابد من طرح بعض الأسئلة الشائكة ولنبدأ مثلاً بالسؤال التالي: لماذا نحتاج إلى العلماء في حياتنا العامة والخاصة؟ الإجابة قد تتشعب إلى ما لا نهاية والمحصلة هي أننا لا نستطيع العيش في هدوء وسكينة في ظل ما ينتابنا من حيرة وشك وخوف من المجهول، لأنه ليس باستطاعتنا التغلب عليها لوحدنا دون مساعدة الآخرين الذين نعتقد بل نجزم بأنهم يفوقوننا في الإدراك والمعرفة لأنهم في حالات كثيرة يتراءون أمام أبصارنا مثل طوق النجاة الذي لا غنى عن الاستنجاد به قبل الغرق، وهؤلاء قد لا يكونون علماء بالمعنى الذي أود إيصاله إلى القارئ الكريم، بمعنى أنهم قد يتعاملون مع الواقع طبقاً لما ورد في النصوص بشكل حرفي دون فهم السياقات والظروف، ومع هذا ليس بالإمكان نزع صفة العلم عنهم رغم جهلهم بروح النص لأنهم في نهاية المطاف هم أعلمُ من الأشخاص الذين لجأوا إليهم بحثاً عن الإجابة. لكن ما الذي يمنعنا عن البحث والاستقصاء حول المسائل التي تقلقنا وتثير التساؤلات في أذهاننا أيا كانت تلك التساؤلات؟ الإجابة بكل بساطة هو الجهل ولا شيء سواه، والجاهل كما قيل قديماً عدو نفسه، لأنه يعطل عقله عما خلق له. ولنفترض جدلاً أننا في حيرة من أمرنا إزاء مسألة ما تتطلب شيئاً من التفصيل والشرح لإزالة اللبس والغموض، هل من المنطق أن نبحث عن العالِم لنسأله عنها قبل أن نبحث في متون الكتب المتوفرة في كل مكان عن إجابة شافية؟ على الأقل لنصبح أكثر قدرة على تمييز العالم عن غيره من المدعين. ما حرضنيَ على الكتابة حول هذا الموضوع هو ما نشهده في هذه الأيام من تناقضات حيث تقوم ثلة من الجُهلاء بممارسات إقصائية لكل من لا يحمل فكراً يتسق مع ما تلقوه من علم ومعرفة بحسب زعمهم! إذ لا يتوانون عن قمع آراء الآخرين بحجة عدم التخصص في القضايا الشرعية والفقهية، وهو من أسوأ أنواع الإرهاب الفكري وأشدها خطراً على الحراك الفكري في أي مجتمع. العالِم وحسب مفهومي الذي قد لا يروق لأنصار هيمنة النقل على العقل هو ليس ذاك الرجل الذي يحفظ متون أمهات الكتب ويرددها على مسامع البسطاء في كل وقت وحين دون أن يُحدث أثراً إيجابياً في نفوس وعقول مستمعيه بل هو ذلك الشخص الذي بإمكانه إضاءة عتمة عقولهم، ولو لم يحفظ ربع ما يردده أولئك الحافظون. إن العلم إذا لم يصاحبه الإدراك والفهم العميق لكافة أمور الحياة المختلفة قد يكون ضاراً ليس على حامله فحسب بل حتى على المحيطين به، فالعلم في الشيء أمر والتفقه فيه والإلمام بجوانبه المختلفة أمر آخر، وهذا ما يتجاهله بعضهم عمداً رغم أن الرسول الكريم عليه أفضل الصلاة والسلام قالها بصريح العبارة «ربَّ حامل فقه ليس بفقيه»