يأخذ التأثر بالآخر أشكالاً متعددة، تتأرجح بين الوضوح والصراحة، وبين التأثر الخفي والمستتر، كما أنه يختلف في القصدية والوعي بهذا التأثر، فقد يكون التأثر ناتجاً عن قصد وتعمُّد واعٍ من الفنان، مع وضوح وصراحة المصدر لهذا التأثر، وقد يكون تأثراً نابعاً من أعتاب الذاكرة البصرية لدى الفنان دون وعي وإدراك لهذا التأثر، وفي القراءة التي أستعرضها هنا كباحثة، تحمل درجة الماجستير في التربية الفنية، تخصص دقيق مقارنة فنون، في جامعة أم القرى، عن الفن التشكيلي السعودي بين الهوية والاتباع.. الفنان فيصل الخديدي نموذجاً، التي هي جزء من رسالتي للماجستير التي نوقشت في أواخر عام 2013، يبدو عمل الخديدي منضوياً تحت سياق الاقتباس على سبيل الاستشهاد والتضمين، حيث يظهر أن الاقتباس والاستشهاد والتضمين في الفن التشكيلي يكون بأخذ الفنان واقتطاعه بشكل كلي عنصراً من عناصر عمل فني آخر شهير ويقوم بتوظيفه في عمله الجديد، مع تعمُّد الفنان وضوح مصدر الأخذ عن الفنان السابق، وذلك تحقيقاً لأهداف مختلفة، حسب رؤية الفنان، وهو بذلك يتعمد وضوح المفارقة، بوضع عمل فني قديم في سياق مختلف عن سياقه التاريخي والاجتماعي. من هنا يتجلى للباحث والناقد أن القراءة للعمل المقتبس في سياق العمل الجديد تبتغي قراءة مختلفة عن سياقها السابق، وذلك وفقاً للسياق التاريخي والاجتماعي الجديد، وتبعاً لذلك فإن صورة الهوية تختلف في شكلها، وفي مدى تحققها، من عمل فني لآخر، لذلك قمت بتتبع صورة وماهية الهوية وشكلها، معتمدة في ذلك على ملاحظة الأشكال المرئية المتجلية فيها هوية الفنان، أو النمط الأسلوبي المتفرد والذاتي، والرؤية المختلفة للكون والحياة. من خلال هذه الرؤية الفنية يخرج لنا عمل الفنان السعودي (فيصل الخديدي) في بوح تعبيري خارج عن حدود اللوحة التقليدية، من معرضه «ثمة ما يستحق»، مثقلاً بفكره المفاهيمي، إذ تظهر لنا صورة من مخطوط ل(ليوناردو دافنشي) تتوسط سطحاً شفافاً يأخذ الشكل المستطيل، يعطي إحساساً عند النظر له للوهلة الأولى بالسطح المتجمد والمثلج، وتأخذ أطراف هذا السطح المثلج الشكل المتعرج. وكأن الفنان هنا يريد أن يوصل بعمله هذا فكرة صاغها في تجمد هذه القطعة الثلجية حول مخطوطة (دافنشي)، حيث ترتكز فكرة الفنان في أنه يريد أن تتحقق أحلامه وأمنياته في أن يتجمد كلما يرى أنه ثمين وجميل، في هذا الزمن الذي غابت فيه كثير من المعاني التي يرى (الخديدي) أنها تستحق البقاء، فعمله هنا يعد وقفة معارضة ضد هذا السيل الجارف الذي أخذ معه كل ما يرى (الخديدي) أنه يستحق البقاء. ويأخذ التأثر هنا شكلاً واعياً ومقصوداً من الفنان، إذ يستشهد متعمداً وضوح مصدر الاستشهاد، بورقة من دراسات (ليوناردو دافنشي)، التي تصور رجلين متراكبين؛ الأول رُسم داخل دائرة، والآخر رُسم داخل مربع، وهي من مجموعة دراسات لليوناردو التشريحية لجسم الإنسان التي يبرز فيها اتحاد الفن والعلم، الذي كان من أهم مميزات عصر النهضة. وتبرز هوية الفنان الذاتية بشدة في طريقة تناوله الموضوع، ففكرة «التجميد» تكتمل فيها جميع شروط الطلاقة والأصالة الفنية، إذ يستشهد الفنان بما مضى من اتحاد للعلم والفن، وبما يحمل فكر عصر النهضة من مبادئ تُعلي من قيمة الفن والإنسان. حيث صاغ الفنان هذه الفكرة في قالب معاصر مواكب للتغيرات الاجتماعية المتلاحقة، وبفكر ناقد لكثير مما يحمله هذا العصر، من تغيب للإنسان كقيمة تستحق البقاء، مقابل إعلاء المادة التي باتت سمة العصر.