خلد جميع من في المنزل للنوم مبكراً ذلك المساء، فقررت انتهاز الفرصة لقضاء بعض الوقت للكتابة، لم أنتبه لمرور الوقت إلا حين اهتز الهاتف، رفعت رأسي لألتقطه، فأصبت بشيء من الهلع حين رأيت اسمها على الشاشة في تلك الساعة المتأخرة من الليل. «ألو.. ليلى»! ليأتيني صوتها مخنوقاً تطلب مني أن أقلها من محطة القطار،.. كان الوقت متأخراً، والمهمة الأصعب أن أُوقِظ السائق، نهاية الأمر وصلتُ للمحطة، وقبل أن أتصل بها، فُتِح الباب الخلفي لأجد امرأة ملتفة جيداً بعباءتها تأخذ مقعدها جواري، لم تترك لي ثغرة تُمكِنَني من التعرف على هويتها، ولكن لفت نظري حذاءها القماشي الغريب الشبيه بالجورب الذي كان يحمل على مقدمته رأس أرنب، رفعت غطاءها عن وجهٍ وجفونٍ متورمة، ثم دَفنت رأسها في كتفي تبكي بصوتٍ خفيض، دون أن تفتح فمها بكلمة، تركتها تعبر عما في صدرها، واكتفيت بالربتِ على رأسها تارة وظهرها تارة أخري، ورحتُ أفكر في الأمر الذي دفعها للهروب من بيتها ومدينتها بعد منتصف الليل، حين وصلنا إلى المنزل، طلبت أن تنام وقبل أن تضع رأسها أخذت مني وعداً أن لا أخبر أي إنسان عن مكانها، ناولتها حبة الرحمة، لتغُط في سُباتٍ عميق. في مساء اليوم الثالث، كان عليَّ أن أواجه اتصالا من زوجها، في بداية الأمر حاول أن يبدو طبيعيا، ولكن سُرعان ما احتدت نبرة صوته يسأل إن كانت أتت لزيارتي، ولو لم تكن أمامي تُراقِبُ ردة فعلي، لسلمتُ نفسي واعترفت بأنني آويت الهاربة منذ ثلاثة أيام، ولكن أجبته بالنفي، وشعرت على الفور بأنه لا يُصدقني، انتهت المكالمة، وما أن التفتُ إليها.. حتى انطلقت. «أنا إنسانة. ولستُ آلة، بل لم أصل حتى لمستوى آلة مثل «سيارته» الأفضل حالاً مني، التي يعرف كيف يحرص على صيانتها، قضيت سنواتٍ بتفانٍ وإخلاص، كان الثمن أن فقدت هويتي، وأحلامي وطموحي، وحياتي الاجتماعية وحتى ابتسامتي، في كل سنة كان يتسلل تحت جلدي بطريقته الثعلبية، ليترك أحد مهامه على عاتقي دون مروءة، إلى أن تراكمت الأعباء، وتبخرت المحبة، وحين يبدو عليّ شيء من التذمر، يبُرر «بأن هذه ضريبة الأمومة» وليس انعداما للمروءة، عندما يحتد الشجار بيننا، ويرى صورته بوضوح يدعي أنه يُحبني، ولا أشعر بذلك، بل أشعر بحبه لنفسه، ولا أحد غير نفسه، يتركني وحيدة تحت وطء المسؤوليات لفتراتٍ طويلة تمتد لشهور، إلى أن تآلفت مع الغياب! بعد ساعات العمل الطويلة، أصبح واجبا فرديا أن أساعد الأبناء من الكبير للصغير بأداء الواجبات المدرسية، وشرح ما يصعب فهمه، وتلبية احتياجات المشاريع والمسابقات والرحلات، وفي نهاية الأسبوع حين تأخذ العاملة المنزلية إجازتها، أقوم بمهامها، ثم أعدو إلى المحلات التموينية لشراء احتياجات المنزل في سباق ماراثوني مع الوقت، بينما يقضي «الأب السلطان» ما تبقى من ساعات يومه بعد العمل مع أصدقائه، أو لممارسة هواياته، وفي نهاية الأسبوع يستيقظ وقت ما يشاء، ليخرج مع رفاقه ويترك «الآلة» تعمل بمفردها إلى أن يأتي أسبوع جديد، طلبت أن يكون لي يوم إجازة في نهاية الأسبوع مثل العاملة المنزلية، في كل مرة كان يهز رأسه بالموافقة، ثم يتسلل من المنزل كالهواء، خضتُ مناقشات عديدة لتغيير ذلك المفهوم الخاطئ، ومساعدته على إدراك أن الشراكة في الحياة الزوجية مهمة وتعمل على استمرارها، وليس استنزاف طرف على حساب آخر، لكن المأساة أنه لا يرى بأن هذا أمر يستحق العناء، لذلك قُضي الأمر.. سأتركه للأبد… وليذهب مع استنزافه اليومي.. إلى الجحيم. مع الأسف مفهوم الشراكة الزوجية في كثير من الأسر داخل مجتمعنا بُتر عمداً مع سبق الإصرار، حين تم الإعداد لها بجهل، منذ نعومة أظافر الزوجين، فنشأ جيل من الشباب يسمع أقوالاً تجزم وتؤكد بأن «ست البنات» تتمنى الاقتران به لخدمته، وحمله على كفوف الراحة ليصاب بالزهو والغرور، دون أن يفعل ما يستحق، وبالمقابل نشأت هي تسمع نصائح ومواعظ تُقدس الزوج البطل الذي «ستر عليها»، لتُوهم بأنها كانت عارية دونه، ليعيش الاثنان في حياة زوجية غير عادلة، يقوم فيها الطرف الأضعف بدور البطولة الفعلية أغلب الوقت، لتنسب إنجازاته وتُسجل في النهاية.. باسم الآخر!!