من المعروف أن المسرح هو «أبو الفنون»، وقد جاءت أبوّته التاريخية هذه، ليس لكون خشبته رحابة ومدىً يتسع لكل الفنون الأخرى فقط، بل لكونه المنبر الإعلامي الأول للحضارات، حيث كانت فُسحته عتبة بين عالم «الآلهة» – عند تلك الحضارات – وبين الشعب، فقد ارتبط منذ قيامه بالطقوس الدينية، فالدراما اليونانية مثلاً قامت بدايةً على شخص «كوروس»، رئيس الجوقة، ممثلاً «الآلهة» في خطابها للجمهور، الذي كان يحضر تلك المسرحيات كواجب ديني شعبي. تطورت شخصيات المسرح اليوناني، تبعاً لتطور البنية الاجتماعية اليونانية، حيث ظهرت الحاضرة الإغريقية القائمة على الديمقراطية، مما استدعى تطوراً مماثلاً في شكل المسرح وشخوصه، فظهرت شخصية «ديموس» الذي مثَّل «الشعب»، وقد كان يُحاكي آلهته، فلم يَعد مُسلِّما بكل أمره لها، بل ظهر بموازاة الديمقراطية الحديثة، حوارية قائمة بين «ديموس وكوروس». مع التقدم الديمقراطي الذي دفع بالبنية الاجتماعية والمعرفية لدى الإغريق، ظهر اتجاه جديد في خطاب المسرح، وهو بين «ديموس» و«ديموس» آخر، أي بين الشعب نفسه، والذي دفعت به الديمقراطية لإقامة نوع من الحوارية الرمزية المُعبّرة. نستدعي عملية تطور المسرح اليوناني هنا كمثال أو كشكل من أشكال الخطاب، لنبين أهمية مواكبة آليات الخطاب، للتغيرات التي تحدث في بنية المجتمع، حيث أن عملية المواكبة هذه تُعتبر سبباً أساسياً في نجاح إيصال الرسالة المنشودة، وفي عصرنا الحالي مع تغير مفهوم الجماعة، والنزوع الاجتماعي للفردانية، بسبب عوامل الانفتاح الحضاري، وظهور العولمة، بتنا بأمسّ الحاجة لتنويع آلية وشكل أي خطاب، لا سيَّما الخطاب الاجتماعي، والديني، فذلك يمثل إثراءً لرسالة هذا الخطاب، وتمتيناً لقواعده التي يقوم عليها صرحٌ من المفترض أن يتسع، ليشمل جمهوراً مُختلفاً، متنوعاً، ومتعدداً، فأيّ خطاب ما، مهما آمنّا بصوابيته أو ضرورته، فنحن بحاجة لبعثه في لغةٍ جديدة تُشبهنا، وقابلة للتماهي معها، لا سيّما ونحن في عالمنا العربي والإسلامي لا نملك إلا أن نستدعي كل خطاباتنا من أتون التاريخ وملاحم التراث، وفي غفلة منّا غالباً لأن أي ظاهرة أو واقعة اجتماعية، هي عُرضة لعوامل التعرية الثقافية والسياسية عبر التاريخ، ودون إحالة لأبعاد تلك الواقعة في ظرفيها الزماني والمكاني، أو في إطارها المفاهيمي الواضح.