طرحت المقالة السابقة الصورة الثلاثية التي يرى بها المستهلك السعودي شخصية الولاياتالمتحدةالأمريكية كدولة. دراسة مماثلة سبقت هذه الدراسة وحاولت استقصاء صورة الولاياتالمتحدة في الصين. وبما أن كلتا الدولتين -المملكة العربية السعودية والصين- تعكس قيماً ثقافية مختلفة تماماً عن أمريكا، فقد كانت المقارنة بين الصورتين ضرورة أكاديمية لسبر أغوار هذا المفهوم التسويقي الحديث. فوفق دراسة كندية أجريت في كل من بكين وشنغهاي في الصين توصل الباحثون إلى أن شخصية أمريكا التي تتبادر إلى أذهان الصينيين هي ثلاثية أيضاً. فالصينيون يرون أن أمريكا عبر شخصيات (الودّي) و(الداهية) و(المتمحور حول ذاته). ولم تتطرق الدراسة إلى تبريرات من الواقع السياسي والثقافي لتبرير هذه النظرة ولكن أن ينظر الصينيون لأمريكا باعتبارها شخصاً (ودّياً) وينظر السعوديون لها باعتبارها شخصاً (لطيفاً) تجعلنا نذهب إلى أن الأثر الثقافي العالمي للولايات المتحدةالأمريكية متسق مع بعضه حول العالم، ولا يؤثر فيه سوى مدى قدرة الثقافة المحلية على مناقضة هذه الثقافة الأمريكية بشكل تلقائي أو مخطط له. أما شخصية (الداهية) التي ينظر بها الصينيون إلى أمريكا فلربما انعكست من احتدام التنافس الاقتصادي بين البلدين. فبقدر ما تعوّل الصين على عوامل اقتصادية وثقافية في تنافسها مع أمريكا، مثل انخفاض تكلفة العمالة، والقدرة على تنظيم سوق العمل، والحسم الذي يفرضه نظام الحزب الواحد في اتخاذ القرار، فإنها تظلّ قاصرة عن منافسة العوامل التي تعوّل عليها أمريكا في هذا المنافسة، وهي روح الابتكار، وجاذبية الدولة، والسوق الداخليّ الهائل الذي يمنح الاقتصاد الأمريكي تماسكاً لا تملكه الدول المعتمدة على التصدير فقط. على سبيل المثال، تمكنت شركة واحدة في أمريكا مثل (قوقل) من الإسهام في الاقتصاد الأمريكي أكثر مما تمكنت مدنٌ صناعية بأسرها في الصين من الإسهام في الاقتصاد الصيني. وبقدر ما نجحت الصين في منافسة أمريكا في مجالاتها المتخصصة مصنعاً بمصنع ومنتجاً بمنتج، فإن الصين مازالت عاجزة عن استنساخ (وادي السليكون) الأمريكي وأشباهه. أما صورة (المتمحور حول ذاته) فلعلها جاءت من صميم القيم الثقافية الصينية التي تقدم الجماعة على الفرد، وترى في أمريكا نقيضاً لذلك بفردانيتها المفرطة. فمهما بلغ إعجاب الصينيين بأمريكا، فإن الصين تظل مجتمعاً جمعيّاً، وبالتالي فإن الفردانيّة -ومرادفاتها- بقدر ما هي مرغوبة في الغرب فهي ممقوتة في الشرق. فالغرب يراها تحرراً من العوائق الاجتماعية دون التفريط في الواجبات الاجتماعية والشرق يراها أنانية وتضخماً للذات التي كان يجب أن تذوب في روح الجماعة لتصنع كياناً أقوى. هكذا ينظر الصينيون والسعوديون إلى أمريكا، فما أثر هذه النظرة على سلوكهم الاستهلاكي؟ في المملكة العربية السعودية، كان أثر شخصية (الطاغية) سلبياً. ولعل أوضح دليل على ذلك هو حملات المقاطعة المتكررة بغض النظر عن نجاحها. أما شخصية (المحترف) فكان لها أثر إيجابي على رغبة السعوديين في الدراسة في أمريكا والقيام بتعاملات تجارية مع شركات أمريكية، وليس شراء منتجات أمريكية بالضرورة. أما الشخصية الأكثر تأثيراً فكانت شخصية (اللطيف) التي تعدّ الدافع الرئيس -حسبما تقوله العينة- وراء رغبة السعوديين في السفر إلى أمريكا للسياحة والعودة بمنتجات أمريكية في حقائبهم. ويمكن تبسيط نتائج الدراسة كما يلي: (والتبسيط هنا للأبعاد التطبيقية فحسب، وإلا فإن الأبعاد النظرية والأكاديمية يصعب تبسيطها). يمتنع السعوديون عن شراء المنتجات الأمريكية لأنها تأتي من دولة (طاغية)، ويرغبون في الدراسة والتعامل التجاري مع أمريكا لأنها دولة (محترفة)، ويرغبون في السياحة في أمريكا لأنها دولة (لطيفة). أما الصينيون، فقد عكست العينة أن صورة أمريكا الودّية تحفز الصينيين على شراء منتجاتها، أما صورتها كشخص (داهية) فهي تحفز الصينيين على السفر إلى أمريكا للدراسة أو السياحة أو الاستثمار. أما صورة (المتمحور حول ذاته) فقد كان أثرها سلبياً على جميع النيات الاستهلاكية للصينيين على حد سواء. بقدر ما قد تبدو الدراسة مفيدة تسويقياً للشركات الأمريكية العاملة في المملكة العربية السعودية والصين فإن الهدف في حقيقة الأمر يتجاوز ذلك. فالدراسات التسويقية ذات البعد التطبيقي غالباً ما تأخذ في الاعتبار عوامل السوق والمنتج والمنافسين في الاعتبار، أما الدراسات الأكاديمية فهي تسعى إلى بناء النظرية التسويقية أولاً. وكلتا الدراستين هنا تسعى إلى بناء نظرية حول أثر شخصية الدولة على السلوك الاستهلاكي لمواطني دول أخرى، وتلقي الضوء أيضاً على أثر القيم الثقافية للمجتمعات على السلوك الاستهلاكي، وكيف يؤثر انطباع المستهلك على سلوكه في الاستهلاك.