تأخذك في رحلة على خطوط الزمان، وتعبر بك إلى الماضي البعيد فتراه حاضراً غضّاَ ، بينما يبدو لك وجه الحاضر غريباً ومبهماً، أمّا المستقبل فمن شروط قبولك على هذه الخطوط ألا تأخذه معك، بل عليك أن تتخلص منه، ومن كلّ أثرٍ له. إنها ذاكرة الإنسان، هذه الأيقونة العجيبة ذات القدرة الهائلة على التصنيف والأرشفة وبعث الحياة في كلّ ما مرّ عليها من جغرافية وتاريخ بأشكالها وتفاصيل حوادثها، حتى لكأن الإنسان يشمّ منها أحياناً عبقاً حقيقياً، ويرى فيها نضارةً وإشراقةً تفوقان نصيب الحاضر منها. ولكنْ ما علاقة النسيان بالذاكرة؟ ولماذا إذا أُتِيَ على ذكرها يتبادر إلى الأذهان هذا الضد؟ في اعتقادي أنّ الذاكرة حياةٌ، والنسيان موتٌ كان في وقت ما جزءاً من هذه الحياة، وبناءً على مبدأ البقاء للأقوى والأصلح، فإنّ النسيان هو جزء من الذاكرة غير صالح للحياة، فينكمش، ويبدأ بالتلاشي حتى الأفول، وهنا تقبره الذاكرة في مقبرة العدم، فلا يتذكّر الإنسان ما مرّ به أو سمعه ألبتة. وهنا يتبادر إلى الذهن سؤالٌ: ما تفسير أنّنا ننسى أحياناً أمراً ما ثمّ لا نلبث أنْ نتذكره، وربما تَذكَّرْنا تفاصيله بدقة؟ أظُنّ أنّ الذاكرة يعتريها ما يعتري الإنسان من قوة وضعف، وموت وحياة، لذلك عندما نتذكر أمراً كنّا نسيناه، فإنّ ذلك يعني أنَّ هذا الجزء الذي أُصيب بالضعف كان سبباً في حادثة النسيان، وعندما استردّ عافيته سرتْ في ذلك الشيء الحياة، وعاد إلى الواجهة. إذا كان النسيان نعمةً في بعض الأحيان، فإنّ الذاكرة نعمةٌ في الأحيان كُلِّها، وكلما كان الإنسان أقدرَ على التذكُّر كان ذلك دليلاً على تمتُّعه بقدرات ذهنية كبيرة، الأمر الذي يعني أنه صاحب ملكة إبداعية، وهذا ما لا نجده عند محترفي النسيان، وهناك تمرينات ذهنية تُنمِّي الجانب الإبداعي عند الإنسان، وتُقلِّل من مخاطر كثرة النسيان.