قال سبحانه وتعالى: (ياأيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون، أياما معدودات فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين فمن تطوع خيرا فهو خير له وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون، شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون). إذن غاية الصيام كما توضح هذه الآيات الكريمة هي التقوى، والتقوى بمفهومها العام الذي يتجاوز ماكان بين العبد وربه من الأعمال، إلى ما يكون بين العبد والناس من المعاملات، ولذلك يبدو من غير المنطقي أن يتحول الصائم إلى شخصٍ نزقٍ فاقدٍ للصبر والتأني وحسن الخلق، خصوصاً حينما يتخذ الصائم من صيامه مبرراً لهذا النزق والجهل، فكما قال الحبيب المصطفى صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم «من لم يدع قول الزور وعمل الزور فليس لله حاجة أن يدع طعامه وشرابه»، والزور هنا يشمل كلا ما كان داخلاً في سوء الخلق وقبيحه، وربما يحق لنا أن نتساءل عن السبب الذي أحال صيامنا – بل مجمل عباداتنا- إلى طقوسٍ ظاهريةٍ تعلي من شأن الظاهري الشكلي، في مقابل الباطني الجوهري، حتى أصبحنا نحرص بشكلٍ هوسي على تمام الطقوس المصاحبة للعبادة، فنتشدد في استيفاء كامل اشتراطاتها ومتطلباتها، في مقابل تغاضينا عن أصل تشريعها والغاية من الأمر بها، وهذا الفهم المقلوب للعبادات وغاياتها هو الذي أحال مجتمعنا في رمضان إلى مجموعاتٍ استهلاكيةٍ نزقه، تأكل الأخضر واليابس، وتشترى ما يفيض عن حاجتها من الغذاء والملبس والكماليات، وتتعامل مع بعضها أثناء الصيام بحدةٍ وضيق، ثم تتحول بعد الإفطار إلى كائناتٍ مخدرةٍ تستلقي أمام القنوات التليفزيونية لتفرغ في عقلها حثالة ما تبثه هذه القنوات، قبل أن تنطلق إلى الأسواق لتبدأ دورة الاستهلاك والإسراف من حيث توقفت في الليلة التي سبقت، هذا حال غالبيتنا في رمضان، أمّا ما يتعلق بالعبادات فقد تحولت في غالبها إلى شكلياتٍ لا تحقق الهدف من تشريعها، ولا تقارب غاية الإلزام بها، فنجد قراءة القرآن قد تحولت من التدبر والتمعن والفهم، إلى الحرص على ختم المصحف فقط! فأصبح هناك برامج إلكترونية وعمليات حسابية لختم القرآن، فإذا أردت أن تقرأ عند كل صلاة، أرشدتك أن تقرأ وجهاً وحداً من المصحف أو أكثر أو أقل، ولو أردت ختمه في كل عشرة أيام تقرأ في اليوم وجهين من المصحف في خمس صلوات وهكذا!! بينما أصبح التدبر في القرآن وفهمه والارتحال مع آياته أمراً لا يذكره أحدٌ ولا يعلي من شأنه القارئ، وهذا مخالف لحال حبيبنا صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم مع القرآن. ولو بحثنا في أسباب فهمنا المقلوب للعبادات، لوجدنا أنّ أبرز هذه الأسباب هو خطابنا الوعظي الذي ابتلينا به منذ جاءت الصحوة إلى مجتمعنا، هذا الخطاب الذي أثقل ظهر الناس بالتكاليف التي تخالف ما ورد في الآيات السابقة، من أنّ الله يريد بعباده اليسر لا العسر، ومعظم هذه التكاليف التي استقتها الصحوة من أحاديث الترغيب والترهيب التي لا يصح أكثرها، هي التي جعلت الناس في حالة لهاثٍ خلف هذه الشكليات للتمكن من الإحاطة بها واتمامها، وفي ظل هذا السعي واللهاث فقد الإنسان – شيئاً فشيئاً- الشعور بالهدف من هذه العبادات، ونسي غايته من القيام بها، حتى أصبح مجرد تأديتها والإتيان بها هو الهدف الذي يعمل من أجله!! ولذلك فقد حان الوقت لتغيير خطابنا الوعظي الشكلي إلى خطابٍ يعلي من جوهر العبادات وقيمتها الحقيقية، ويؤكد على ضرورة انعكاسها على السلوك تهذيباً وإصلاحاً، لكي لا يكون حالنا مع صيام رمضان – وبقية العبادات- كما قال ساخر العراق الكبير معروف الرصافي رحمه الله: حذار حذار من جَشَع فإن رأيت الناس أجْشعها اللئام وأغبى العالمين فتىً أكول لفِطنَتِه ببِطنَتِه انهزام ولو أني استطعت صيام دهري لصمت فكان دَيدَنيَ الصيام ولكن لا أصوم صيام قوم تكاثر في فُطورهم الطعام إذا رمضان جاءهم أعَدُّوا مَطاعم ليس يُدركها انهضام فإن وضح النهار طَوَوا ِجياعاً وقد نهِموا إذا اختلط الظلام وقالوا يا نهار لئن تُجِعنا فإن الليل منك لنا انتقام وناموا مُتْخَمين على امتلاء وقد يتجَشّؤُون وهم نيام فقل للصائمين أداء فرض ألا ما هكذا فُرض الصيام وربما كان الحال الذي يصفه الرصافي قريباً من حالنا، فمن نظر إلى حال المتسوقين في الأيام التي سبقت قدوم هذا الشهر الكريم، ظنّ أنّنا مقبلون على سنينٍ عجاف!! ومن رأى مبالغة الناس وإسرافها في موائد رمضان بشكلٍ عبثي، ظنّ أنّ الناس كانوا جياعاً طوال السنة!! أمّا ما يتعلق بقيم العمل والإنتاجية فلا يمكن تبرير التقصير الذي يصيب أداء الناس، ولا يمكن قبول الكسل الذي يغلبهم حال القيام بواجبهم، فمن تمام القول هنا أن نذكر حديث الرسول صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم «إنّ الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه» ولا شك أنّ محبة الله سبحانه وتعالى أعظم غايات التقوى التي هي غاية الصيام وكل العبادات، فكيف يظن بعض الناس أنّ الله يرضى عن تقصيرهم في عملهم الواجب لأجل تفرغهم للنوافل؟! وهذا ما يعيدنا إلى ضرورة وجودٍ خطابٍ عقلاني جوهري، عوضاً عن خطابنا الإنشائي السطحي، هذا الخطاب البديل الذي نأمل أن ينتهجه الخطباء والدعاة والنخب الفكرية، يجب أن يكون خطاباً مقاصدياً، يتجه إلى مقصد الشارع سبحانه من تشريع العبادة، ويدور مع المصلحة والعدل والعقل حيثما كانت،أمّا بقاء الأمر على ما هو عليه من تسطيح العبادات وتفريغها من معناها الحقيقي، فلن يصل بالعابد في هذه الحالة إلى الوجهة الصحيحة، بل سيشغله بتوافه الأمور وشكليات التعبد، دون أن يبلغ جوهر العبادة، هذا الجوهر الذي سيكون في حال بلوغه سبيلاً لتغيير سلوكياتنا، ليس في رمضان وحسب، بل في كل تفاصيل حياتنا، كما يقول الحق سبحانه وتعالى «واعبد ربك حتى يأتيك اليقين» وإن كان كثير من المفسرين يرى أنّ المقصود باليقين هنا هو الموت، إلاَ أن ظاهر الآية يحتمل أن يكون المقصود هو اليقين بذاته، هذا اليقين الذي لا تؤدي إليه إلا العبادة التي يستشعر صاحبها غايتها وجوهرها.