تعددت الفضائيات والقنوات وتنوعت برامجها ومحتواها، حتى أصبحت لا تهتم بشكل كبير بما تقدمه للمشاهد الكريم من برامج ومضامين، وما قد تكون نتائجها على الفرد والمجتمع سواء سلباً أو إيجاباً. ولعل من أخطر هذه البرامج برامج الحوارات واللقاءات لشخصيات متنوعة وجنسيات مختلفة منها الغث والسمين، التي يحرص فيها المقدم لهذه البرامج على أن يكون الضيف شخصية غير عادية وجذابة بالنسبة للمجتمع، إما من ناحية سياسية أو اقتصادية أو دينية أو اجتماعية أو فكرية كما يحبذ أن تكون لدى هذه الشخصية، إن كانت سلبية شيء من الشذوذ العقدي والميول الفكري والأفكار الهدامة والمناقضة لكثير من أنظمة ومبادئ المجتمعات والمؤسسات المحافظة والمعتدلة. هؤلاء المقدمون يرون أن في استضافتهم لمثل هذه الشخصيات السلبية جذبا للمشاهدين، وأن رغبة المشاهدين في ظهورهم وعرضهم لأفكارهم الغريبة والمصادمة في كثير من الأحيان لمبادئ وأنظمة وأعراف نشأ عليها المجتمع، أمر مرغوب فيه من قبل المجتمع، وذلك جرياً على قاعدة كل ممنوع مرغوب. ولم يع هؤلاء الإعلاميون مدى البعد الفكري والجانب الفعلي الذي قد يسببه من ينفث أفكاره وسط مجتمع من أهم ما يميزه تلاحمه وتماسكه فكرياً واجتماعياً. فهذه البرامج تعمل على استثارة الضيف حتى يبدي ما تحويه جعبته مما هو غير مستساغ أو مما تمجه العقول، فضلا عن النفوس والفطر السليمة دون أن يكون هناك أي رد أو تعقيب، وكأن الأمر مجرد أقاويل مسلم بها، أو نقلا من أخبار ممن قد مضوا قد ظهرت في حينها ثم اندثرت فجاء من يحييها بعد وأدها، وغاية ما يبرر به المقدم لهذه الآراء والأفكار أن هذا هو رأي الضيف الشخصي وهو لا يمثل القناة. وإذا كان رأيه الشخصي فماذا عن المتابعين ممن شاهدوه وسمعوا له؟ وممن فُتح لهم باب للشكوك ومقدمات لتفرد العقول، والهواجس والظنون لمختلف الأعمار والعرقيات والشرائح والجنسيات ممن قد يتأثر بكلمة أو يفسر الكلام على غير وجهه؟. إن من ينشر أفكاره ليس مقصوده فقط معرفة الناس واطلاعهم عليها، بل أيضا تبنيها وتقبلها وتسويقها والحديث عنها بين أوساط المجتمع، مما يجعل لها أولاً قبولا مبدئياً، بعد هدم كل حاجز نفسي قد يحول دون تقبلها ومن ثم تبنيها والعمل لأجلها، إضافة إلى فتح المجال لمن تستهويهم قاعدة فرق تسد. لذا فإن هذه اللقاءات مع شخصيات أقرب ما تكون إلى السلبية، تعمل على بث روح الفرقة والتفكك بين أبناء الوطن الواحد، في وقت أحوج ما نكون إلى بناء الثقة بين أبناء الوطن ونبذ الفرقة وتقليص الفجوة بيننا، ونحن نرى نتائج مثل هذه اللقاءات فيما يتبعها بعدُ من تعليقات سواء في المواقع أو المجالس يُرى من خلالها مدى الهوة والخلاف في ردودهم ما بين مؤيد ومعارض. ولا يعني هذا ألا نستمع إلى الطرف الآخر أو لا نتحاور مع الآخرين ونستفيد منهم ومن عقلياتهم وآرائهم، فالمشاركات الفكرية مطلوبة لإثراء جوانب المعرفة وتطويرها والنهوض بالمجتمعات، ولكن ما أعنيه هو مما لا يشك معه عاقل على فساد رأيه وبخس بضاعته ممن يتطلبون الشهرة من خلال قاعدة خالف تعرف، التي تستهوي الناس والمتابعين بشكل كبير، ولم يكن لأي كلامه دليل من نقل أو عقل أو كان مما يفرق به الصف ويزيد به الشق. والناظر لما أصاب بلادنا من ويلات ومحن، يعلم أنما هي نتاج أفكار وأهواء لنكرات في أوساط المجتمعات تم النبش عنهم وعن أفكارهم أولاً، ثم بثها من خلال الفضائيات، حتى تبناها من تبناها فصارت هماً ثم عزماً ثم عملاً على أرض الواقع. وكون المقدم لا يكتفي بمثل هذه اللقاءات، بل إن بعضهم يطلب من المشاهدين في نهاية الحلقة أن ينقلوا عن الضيف بعض أفكاره ومقولاته، التي هي من أغربها وأشنعها مما استنبطه خلال الحلقة. في الواقع أمر يدعو للعجب، وأقرب ما يكون إلى العبث.