لم تعد الأسوار العالية والسميكة بين البلدان بذات الجدوى في توفير الحماية من تأثيرات ما يجري خارج السور كما كان يحدث في العصور الماضية، ولم تعد تمنح العزلة كما كانت في السابق ولا تقي من تسلل المفاهيم والأفكار بخيرها وشرها إلى شعوبها. صحيح ما زال هناك من يهوى هذه العزلة ويستميت في سبيل عودتها، ولكنها سنة الحياة التي تجعل عقارب الساعة لا تعود إلى الوراء. فكل ما يحدث من حوالينا و علينا من صخب وهمس فكري يصيبنا بطريقة أو بأخرى، يساعده في تحقيق ذلك ما بلغته وسائل الاتصالات من تقدم، وتكنولوجيتها السائرة بخطى حثيثة نحو عالم بلا حدود. تنتقل وتنتشر الأفكار دون عربات نقل، ولا تشحن في صناديق مغلقة، ولا يحملها عتالون فوق ظهورهم، وإنما من خلال الأدمغة والقلوب التي لا يعلم إلا الله ما تضمر وما تعتقد، فيتم التواصل بين المؤمنين بها، وتتآلف القلوب على الفعل الواحد. فالتأثر واقع لا محالة، شئنا أم أبينا، فما يأتي من الخارج لا يظل خارجياً أو غريباً للأبد، وإنما يتفاعل مع الواقع المحلي، ويصبح تقبله من قبل الناس مرهوناً بصلاحيته ومنفعته لهم، وتحوله إلى ممارسة فعلية لتحقيق محتوى هذه الأفكار، وبلوغ ما تصبو إليه. ولأن الفعل الإرادي مقتصر على بني البشر فهو عرضة للخطأ والصواب، جاذباً أو مؤسساً للخير أو العكس، ما يقرر ذلك ليس صاحب «أصحاب» الفعل نفسه، وإنما العقيدة المجتمعية التي تتشكل من خلال مجموعة القيم والمفاهيم السائدة والمهيمنة، التي يعتمد المجتمع عليها في بنائه السياسي والاقتصادي، الذي لا يرضى بأن يمسه ما يتلفه أو يدمره. ولذا تتشكل المنظومة القانونية لحماية النظام أو البناء القائم. ولكي يكون القانون مقنعاً ومحترماً لدى الأغلبية من الناس «وهنا تأتي مسألة عدالة القانون» عليه أن يتعامل مع الفعل، لا مع الأفكار التي تحتضنها الأدمغة وتنبض بها القلوب، فحينما يحُاسب الإنسان على شيء غير مرئي، حينها يخرج القانون من طبيعته المادية ويرتدي روحاً ميتافيزيقية ليس لها صلة بالواقع البشري، الذي صنع وشكل النظام السياسي والاقتصادي، وينزع عن نفسه صفته الموضوعية التي جعلتها مقبولاً ومحترماً، وبمعني آخر ينزع عن نفسه صفة العدلية الضرورية لبقائه قانوناً يقبله ويخضع له أفراد المجتمع. ولهذا غالباً ما ترتدي محاولة التصدي للأفكار والمفاهيم المرفوضة من قبل العقيدة المجتمعية، «قبل تحولها إلى فعل» بواسطة الطرق العقابية القانونية لباساً تسلطياً استبدادياً متنافياً مع روح العدالة. ولكن من جهة أخرى، ومن ضمن الأفكار العابرة للحدود تلك المفاهيم والاعتقادات الداعية إلى تفكيك وحدة المجتمع وتدمير نسيجه وتكويناته بواسطة الإرهاب والعنف الأعمى، وهي مثلها مثل غيرها من الأفكار والمعتقدات تظل تبحث عمن يتبناها ويؤمن بها. ولن تجد صعوبة في بلوغ ذلك خاصة إذا ما استخدمت مواقع الضعف في تركيبة المجتمع. فأصحاب هذه الأفكار يبحثون دائماً عن المنافذ السهلة وضعيفة الاختراق لنشر معتقداتهم وبثها بين الناس لغرض السيطرة الكاملة عليهم، واستغلالهم في سبيل تحقيق مشاريعهم الخفية، مثل استغلال الفروقات الإثنية والدينية والطائفية وما غير ذلك من الاختلافات التي عادة لا تنبع من الواقع المعاشي المعاصر بقدر ما تكون قادمة من طبيعة بيولوجية، أو موروثات عقائدية قديمة. وهنا تأتي القيمة الكبيرة للوقت، فمواجهة ومعارضة حامليها والمبشرين لها فكرياً وسياسياً وقانونياً بصورة مبكرة، سيعيق مشاريعهم ويخلق بين عموم أعضاء المجتمع رفضاً مبكراً لدعواتهم وسدا يمنعهم من تقبل كافة أطروحاتهم، التي مهما تسترت بستائر الدين فلن تجد لها ما يكفي من الآذان الصاغية والمطيعة في تحويل هذه الأفكار الشريرة إلى ممارسة عملية تضر بوحدة المجتمع وتماسكه البنيوي. ومن الأمثلة الآنية على ذلك مواقف مجموعة بوكو حرام النيجرية التي برزت مؤخراً في اختطاف تلميذات من مدرستهن بحجة مخالفتهن للشرع الإسلامي بذهابهن للتعلم في مدارس غير دينية، بينما ستكشف الأيام بأن هناك أهدافا أخرى لم يفصحوا عنها حينما نفذوا عملهم الإرهابي هذا. لقد توالت صيحات الإدانة من جهات لم تنبس من قبل ببنت شفة على أعمال هذه المجموعة الإجرامية السابقة، ولم يبالوا بما كانوا يقومون به من ترويع لخلق الله وسفك للدماء، ولكنها بعدما جاء رد الفعل قوياً من شخصيات غير إسلامية، لم تقبل هذا العمل الشنيع وتحدثت بما كان يجب عليها قوله قبل سنين مضت. وللحديث بقية…