يعيد ما حدث في بلاد الثورات العربية الاعتبار لمفردة الحرية بوصفها قيمة إنسانية كبرى مجردة أحياناً ومادية في أحيان أكثر، يعيد الاعتبار إليها لا لأن هذه الثورات استطاعت تحقيقها وإنجازها وجعلها صفة تميز الشعوب التي نادت بها، بل العكس تماماً، أعيد الاعتبار لها لأنها أصبحت موضوعاً يومياً للبحث والنقاش والجدل، ولأنها ظهرت كمفهوم غائم وغير محدد، ولأنها أيضاً بدت كما لو كانت سبباً للحروب الحاصلة حالياً، أي بالمختصر بصفتها سبباً للخلاف البشري بينما يفترض بالقيم الكبرى أن تكون سبباً للاجتماع والاتفاق لا العكس. حينما نادى شباب العرب في شوارع بلاد العرب (حرية) كان في الشوارع العربية نفسها ومن شباب العرب أنفسهم مَنْ يشتم الحرية، هذا الاختلاف سرعان ما تحول إلى صراع، والصراع تحول إلى معركة، والمعركة إلى حرب دموية مجنونة جعلت من النطق بمفردة كالحرية أشبه بالترف والرومانسية البغيضة أمام أنهار الدم الجارية وأمام الكوارث الإنسانية الحاصلة يومياً، تفوّق العنف هنا إذن على القيمة الإنسانية العالية وتفوّق لون الدم على بياض المفهوم الإنساني وتفوّقت رائحة البارود على رائحة الحلم، هكذا تبدو قيمة كبيرة كالحرية خافتة وهشة أمام حضور القوة والعنف، القوة المعززة بسلطة السلاح، السلطة التي يصنعها الاقتصاد ومافيات المال العالمية، هكذا أيضاً تسقط القيم الخيّرة الكبرى أمام سلطة المال وقوته وتظهر هشاشتها أمام الجبروت البشري المنحاز إلى الشر بصفته مانحاً للقوة اللازمة للتفوق واللازمة للتسلط واللازمة للسيطرة. بمكان آخر يظهر الاختلاف على مفهوم الحرية بوصفها قيمة إنسانية كبرى حتى بين مَنْ هتفوا باسمها ذات يوم معاً، فجأة انزاحت الحرية من مكانتها العليا المنشودة لتحتل مكانها العصبيات المختلفة والأيديولوجيات الحزبية والعقائد الدينية! يصبح مفهوم العصبة هنا أعلى من مفهوم الحرية وأكثر قيمة، العصبة: العائلية والقبلية والمناطقية والطبقية والدينية والمذهبية، العصبة هنا بصفتها أيضاً حامية ومانحة للقوة وبصفتها، المقدس، الذي يمنع المساس به أو الاقتراب منه تحت يافطة الحرية، المقدس الذي ترسخت تحته القناعات والبديهيات وتثبتت كسلوك يومي وكنسق جمعي يعتبر الخروج عنه إثماً مبيناً والخارج صاحب ذنب عظيم وعقوبته بمقدار شناعة ذنبه: التكفير وما يتبعه من عقاب والتخوين والطرد من الثورة والشتائم المبتذلة في أحسن الأحوال، حيث يتم تجاوز مفهوم الحرية العامة، ويتم التعدي على الحرية الشخصية وحق الآخر بالتعبير والرأي والاعتقاد والقول والعبادة، منطق هذا التعدي هو القوة، التي تمنحها العصبية والسلطة المستمدة من القوة، هنا أيضاً تسقط قيمة الحرية كواحدة من أهم قيم الخير في الكلية الإنسانية، وتظهر هشاشتها أمام الجبروت البشري المنحاز لميله لكل ما يظن أنه يمنحه الحماية والقوة والسلطة، وبالتالي يحافظ على حياته ووجوده. المدهش في الحالتين أن مانحي القوة والسلطة وزعماء مافيات المال العالمي بكل ما يتبعه من سياسة وسلاح ودين هم الوحيدون، الذين يتمتعون بمفهوم الحرية بينما أتباعهم يتحولون إلى عبيد جاهزين للقضاء على كل مَنْ يشوش على حرية السادة وحرية سيادتهم!! ثمة انهيار مرعب هنا للبشرية وانهيار لكل ما قد يشكل حضارة قادمة جديدة للبشر إن استمر الحال هكذا زمناً طويلاً بعد. فسقوط قيم الخير أمام الجبروت البشري المنحاز لكل ما يسبب سيادة الشر هو بمنزلة الإعدام للعدالة وللحق وللعيش الكريم وللحلم وللحياة بوصفها حقاً لجميع البشر. هو إعدام لمستقبل البشرية الجمعاء واقتصار المستقبل على فئات قليلة محددة، بينما مستقبل مليارات البشر الآخرين في مهب الريح القوية.