ضمن سلسلة المقالات التي أكتبها خلال هذه الفترة عن حياة الإنسان بعد التقاعد، تطرقت يوم أمس إلى ما ذكره خبير علم نفس التقاعد الدكتور ريتشارد جونسون في إحدى محاضراته عن الدكتور كمبل ثلاثة مصادر يجد فيها المتقاعد معنى جديداً لحياته، ولقد عرضتها كما هي: 1) الإبداع من خلال المهارات والقدرات المميزة لكل فرد، 2) رؤية الخير والجمال حولنا، 3) المنح تكمن في المحن. وقد تحدثت يوم أمس عن المصدر الأول وهو الإبداع من خلال المهارات والقدرات المميزة لكل فرد، حيث إن القدرات الإبداعية الفردية للمتقاعد لم تنته أو تنضب، بل هي في أوجها وأخصب مراحلها، ولكن التحدي الذي يواجهه المتقاعد هو البحث المرن عن منفذ وفرصة جديدة لإعمالها، وقد يختلف المنتج النهائي عما سبق في صورته فقط، ولكن جوهر المنتج يظل كما هو عطاءً وخدمة ونفعاً عليه توقيع الخصوصية الفردية وإيقاعها البديع. 2- رؤية الخير والجمال حولنا: إن معنى حياة لإنسان في كل مراحلها (بما فيها النقلة الحياتية المتمثلة في التقاعد عن العمل) ليزداد عمقاً وتألقاً بتعلمنا وتدريبنا أنفسنا على رؤية جوانب الخير والجمال والرحمة والعطاء في كل ما نراه من حولنا، وما مرجع هذه الرؤية الإيجابية والمتفائلة إلا حسن ظننا بالله سبحانه وتعالى، والثقة في واسع كرمه وعظيم رحمته بنا، فهو سبحانه وتعالى أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين. ألا فطب نفساً أخي المتقاعد، وقرّ عيناً، واملأ حياتك بأجمل المعاني وأرق المشاعر، متّع ناظريك بزرقة السماء، وتأمل حسن الشمس في إشراقها وغروبها، واطرب روحك ببسمة أولادك وضحكات أحفادك، وافرح بأنسك مع زوجك وأهلك وأصدقائك، وتلذذ بكوب شاي وقطعة حلوى، وثق في كرم الله ونواله الذي لا حد له ولا نهاية، لقد أعطاك و رزقك ومتعك فيما سبق، فاسأله دوام عطائه وسعة رزقه في مستقبل أيامك، ومن ستر الماضي وانعم بستر الباقي وأفضل. 3- المنح في المحن إن من أجمل ما يضفي معنى ورونقاً وسناءً لحياة الإنسان عموماً، والمتقاعد بخاصة، نظرته للمحن وصبره وحسن ظنه بخالقه عند فقدانه بعضَ ما يحب، فكم من بلية في ثناياها ألف عطية، وكم من محنة في أعطافها أكبر منحة، فرب مريض بمرض مهلك يشكر ربه على نعمة مرضه، فبه عرف ربه وأناب إليه وأخبت، وبه أدرك واستدرك تقصيره في حب زوجه و ولده، وبه عرف لذة السعادة في العطاء والبذل، وبه أدرك نعمة ولذة حياته في يومه وساعته ولحظته، وبه أدرك بحق أن السعادة قرار لا بد أن ينفذ في حينه وتوه، فما كل من أجل السعادة لغد مدركها. إن التقاعد بتغيراته ونقلته ومفاجآته قد يكون في ظاهره مؤلماً ومحزناً للبعض، ولكننا نذكر أنفسنا وإياهم بالمنح الكامنة في زوايا المحن، فرحمة الله لا تغيب، ولكننا نغفل عن إدراكها أحياناً، فكل حالنا عطاء ومنن من الله، حتى منعه لنا وأخذه بعضاً مما نحب في جوهره عطاء وكرم، فهو لم يمنعنا بخلاً، إنما منعنا لطفاً ورحمة، وهو أعلم بما يصلح شأننا من أنفسنا، والله أعلى وأعلم، والحمد لله رب العالمين.