التفوُّق الدراسيُّ مطلبٌ تسعى إليه الأسرُ آباء وأمَّهات، وتحفلُ به مدارس التعليم العام للبنين وللبنات، ويعكس نجاحاتها في أدوارها وفي أهدافها، ويعطي مؤشِّرات إيجابيَّة على نهوض المعلِّمين والمعلِّمات بأدائهم التعليميِّ وبرسالتهم التربويَّة، وقد أصبحت احتفالاتُ التفوُّق قبيل انتهاء العام الدراسيِّ عُرفاً سنويّا مدرسيّا يسعد به المتفوِّقون والمتفوِّقات والآباء والأمَّهات والمعلِّمون والمعلِّمات، وتنظِّمُها إداراتُ المدارس وتَعُدُّها من باب الحفز والتشجيع لمواصلة التفوُّق لدى المتفوِّقين والمتفوِّقات ولإغراء غيرهم وغيرهنَّ ببذل الجهود لتحقيق التفوُّق الدراسيِّ. ويحسنُ في ضوء ذلك التساؤل عن الفرق فيما بين التفوُّق التحصيلي والتفوُّق الدراسيِّ، فالتفوُّق التحصيليُّ هو ما يعتمد على نتائج الاختبارات التحصيليَّة المدرسيَّة فقط، وتلك في أفضل أساليب بنائها ومن خبرائها ووفق جداول مواصفاتها غير قادرة تماماً على تصنيف الطلاَّب بحسب فروقهم الفرديَّة قدراتٍ ومهاراتٍ وجهوداً، فضلاً عمَّا يشوب بناءها فتصحيحها من قبل معلِّمين ومعلِّمات لم يدرَّبوا على بنائها وفق جداول مواصفاتها، وهذا ما تطلَّب نشأة المركز الوطنيِّ للقياس والتقويم وتصميمه اختبارات القياس والاختبارات التحصيليَّة التي كشفت نتائجها وَهْمَ التفوُّق التحصيليِّ في مدارسنا، أمَّا التفوُّق الدراسيِّ الآخذ باعتباره التفوُّق التحصيليَّ كجانب معياري واحد، ويضاف إليه جوانبُ أخرى يفترض أنَّ الطالب أو الطالبة حقَّق أهدافها التربويَّة من بناء ذاته، وتحمُّله المسؤوليَّة في جوانب حياته وفق مرحلته الدراسيَّة، وقدرته على الحوار مع زملائه ومع معلِّميه، وبنائه للقيم والمبادئ وظهور تأثيرها إيجاباً بسلوكه، وتنمية ميوله ومواهبه وملكاته تنمية تحفزه على المشاركة في نشاطات مجتمعه المدرسيِّ والمجتمع المحيط بمدرسته، وغيرها ممَّا وضعته التربية أهدافاً لبلوغها بإنهاء مراحل التعليم العام. كما يحسن باتِّجاه ذلك التساؤل هل التفوُّق الذي تحتفل به مدارسنا حقيقيٌّ أم وهميٌّ؟، والإجابة على هذا التساؤل ستكون في ضوء مدى سلامة المعايير المستخدمة مدرسيّا لتحديد المتفوِّقين وبالتالي مدى مصداقيَّتها، إذْ يستند التفوُّق في مدارسنا على نتائج اختباراتها التحصيليَّة فقط، وعموماً لتكون هذه النتائج حقيقيَّة فإنَّها ينبغي أن تكون اختباراتها قادرةً على تصنيف الطلاَّب بحسب فروقهم الفرديَّة، وبذلك ستأتي نتائجُها متمشِّيةً مع منحنى التوزيع العاديِّ إذا كان عدد الطلاَّب أو الطالبات في الصفِّ الدراسيِّ قد تجاوز ثلاثين طالباً أو ثلاثين طالبة، فإن كان هناك عيبٌ في اختباراتها أخذ منحنى التوزيع شكلاً ملتوياً، فالالتواءُ الإيجابي بارتفاع نسبة المتفوِّقين عن 10% من عدد الطلاَّب يعطي دلالة قاطعة على عيوب واضحة في الاختبارات التحصيليَّة كسهولتها أو سهولة التصحيح أو الغش في الإجابة، والالتواء السلبي بارتفاع نسبة المخفقين بالتحصيل الدراسيِّ عن 10% من عدد الطلاَّب يدلُّ دلالة قاطعة على صعوبة الأسئلة أو على ضعف إعداد الطلاَّب وبالتالي يكشف عن تقصيرٍ من المعلِّم أو من الطلاَّب، كما أنَّ ضعف المناهج الدراسيَّة وتدنِّيها إلى ما دون قدرات الطلاَّب يؤدِّي إلى الالتواء الإيجابي الموهم بالتفوُّق، وقوةَّ المناهج الدراسيَّة وصعوبتها فيما تفوق قدرات الطلاَّب يؤدِّي إلى الالتواء السلبي للمنحنى، فمنحنى التوزيع العادي يظهر التفوُّق في نسبة 10% العليا للمنحنى، فيما يظهر الإخفاق في نسبة 10% الدنيا للمنحنى، فيما تتدرَّج نسبة 80% المتبقية بينهما، فهل يظهر هذا في مدارسنا؟!. احتفلتْ الثانويَّة الثالثة للبنات في محافظة عنيزة في هذا العام الدراسيِّ بمتفوِّقاتها وعددهنَّ 354 طالبة من مجموع طالباتها وعددهنَّ 485 طالبة، أي أنَّ نسبة الحاصلات على90% فأكثر كانت 73% وما دون ذلك كُنَّ 27%، وبالرغم من أنَّ ابنتي كانت من ضمن المتفوِّقات وشاركتها أمُّها الاحتفال إلاَّ أنَّهما لم تشعرا بمشاعر التفوُّق في خضم هذا العدد الكبير جداً، بل ولم تتح لأمِّها مقابلة إلاَّ معلِّمة واحدة من معلِّماتها، فكيف يكون هذا احتفال بالمتفوِّقات؟!!، هذه الأرقام والنسب للتفوُّق انكشفت في الأعوام السابقة بأنَّها وهميَّة بالقدرة على مواصلة التعليم الجامعي، وتأكَّد ذلك بنتائج اختبارات القياس والاختبارات التحصيليَّة التي كشفت وَهْمَ التفوُّق التحصيليِّ في مدارسنا للبنين وللبنات، فإلام سيستمرُّ هذا في مدارسنا يا صاحب السمو الملكي الأمير خالد الفيصل يا وزير التربية والتعليم؟!!. كما يحسن باتِّجاه ذلك وفي ضوئه التساؤل عن تحقيق مدارسنا أهدافها التربويَّة برعاية المتفوِّقين باحتفالاتها السنويَّة، إنَّ الإجابة على هذا التساؤل ستكون في ضوء مدى مصداقيَّة المعايير التي استخدمتها المدارس لتصنيف الطلاَّب فتحديد المتفوِّقين من سواهم، وفي مدى مراعاة المقرَّرات الدراسيَّة الفروق الفرديَّة بين الطلاَّب، وفي ظهور الآثار النفسيَّة الإيجابيَّة على شريحة المتفوِّقين والآثار السلبيَّة على شريحة غير المتفوِّقين، إنَّ فئة ذوي القدرات والمهارات المرتفعة من الطلاَّب والطالبات يستاءون من مناهجهم الدراسيَّة ذات المستويات المتوسِّطة في أهدافها التعليميَّة التي لا تتيح لهم ولهنَّ الوصول بأقصى طاقاتهم التحصيليَّة لاستثمار قدراتهم ومهاراتهم استثماراً حقيقيّا، وتتيح لزملائهم وزميلاتهنَّ الأدنى قدرات ومهارات منهم التساوي معهم بالتحصيل الدراسيِّ ببذل الجهد ضاربة بما يسمَّى بالفروق الفرديَّة عرض الحائط المدرسيِّ، فالسقف المتدنِّي للأهداف التعليميَّة للمناهج الدراسيَّة يحدُّ من طموحات ذوي القدرات والمهارات المرتفعة، فيما يتيح لذوي القدرات والمهارات المتوسِّطة الوصول إليه بمضاعفة الجهد، ثمَّ إنَّ الأسلوب التعليميَّ القائم على التلقين فالحفظ فالتسميع المكتوب وهو أدنى الأهداف التعليميَّة، وتبنى الاختبارات التحصيليَّة وفق ذلك عامل محبط لذوي القدرات والمهارات المرتفعة، ولذلك يفتقد أولئك معنى التفوُّق الحقيقي وتضعف لديهم روح المنافسة التي تتيح للأدنى منهم الوصول إلى هذا التفوُّق، أمَّا إغراء ضعيفي التحصيل ببذل الجهود فهذا لا يتسنَّى لهم نتيجة للإحباطات التي يلاقونها داخل فصولهم من الاحتفاء بالمتفوِّقين فيها وفي إذاعاتهم المدرسيَّة، وفي الرحلات المدرسيَّة التي يكافأ بها المتفوِّقون، وأخيراً بالاحتفالات المدرسيَّة بالمتفوِّقين، وأحسب أنَّ ذلك أدَّى كردود فعل لإثبات الذات إلى ظاهرات التنمُّر المدرسي والدرباويَّة والبويات، بل وعمدت المدرسة الثانويَّة الثالثة للبنات إلى أن تطلب ممَّن لم يحزن على نسبة 90% فأكثر التغيُّب يوم الاحتفال بالمتفوِّقات لعدم اتِّساع قاعة الاحتفال لهنَّ مع المتفوِّقات وأمهَّاتهن، ولانشغال معلِّماتهنَّ بالاحتفال عن حصصهنَّ الدراسيَّة، فما مشاعرهنَّ تجاه هذا ذلك اليوم وفي اليوم التالي عند عودتهن للدراسة؟، فهل ستراجع المدارس أساليبها ومعاييرها للتفوُّق واحتفالاتها بالمتفوِّقين؟!.