شبيحة النظام السوري الإلكترونية طارت فرحاً بتصريحات وأحاديث محمد حسنين هيكل على قناة الجزيرة 28 /10 /2011م. يبدأ تعليقه بالقول «ما حدش يتهمني بمولاة البعث» لكنه.. طالب بإعطاء فرصة لثورة سورية حتى تنضج، بعد شهور طويلة من مذابح البعث للشعب السوري. عندما جاء الكلام عن سيرة القتل اليومي من النظام تحدث عن تجاوز قناة الجزيرة في التغطية! لم تكن آراء هيكل مفاجأة كما توهم بعض من بحث عن أسباب مباشرة لهذه المواقف، وكأنها تختلف عن تاريخه الصحفي. المفاجأة هي في استمرار حضور كاتب صحفي منذ أربعينيات القرن الماضي محتفظاً بقدراته الكتابية وأسلوبه الذكي في اختراع صور خاصة به للأحداث العربية حتى الآن، يمزج الحقائق بالمغالطات فأصبحت مدرسة هيكل ذات سمات محددة يتابعها أنصاره وخصومه. يقترب الآن من التسعين، ولا زال يظهر على الشاشة في حوارات عن التطورات العربية محتفظاً بالكثير من حيويته الذهنية! مسألة التدخل الأجنبي.. أتاحت لهيكل وغيره المناورة السجالية بسهولة منذ أكثر من نصف قرن، للتشويش على فهم القضايا السياسية العربية، والتغطية على أخطاء أنظمة استبدادية عسكرية. جاء الربيع العربي ليكشف مأزق هذه المدرسة الصحفية العروبية التي كانت حاضرة في كثير من أزماتنا العربية الحديثة. جمهور عريض من الأجيال القديمة والجديدة اختزل هيكل وفق تصورات معينة ليست دقيقة. لهذا ترتبك آراؤهم بين الإعجاب والحنق على مغالطاته ومواقفه التاريخية التي تبدو أحياناً غير مفهومه، وماذا يريد الوصول إليه؟! الربيع العربي كشف آخر أساليب وحيل هذا الاتجاه الصحفي العروبي في التستر على أنظمة استبدادية. موقف وتكتيك هيكل الكتابي يختلف في القضايا العربية بين الأنظمة العسكرية والأنظمة الملكية. ويختلف عنهما عندما يتناول الشأن المصري. في موقفه من الشعوب، حافظ هيكل وبعض أصحاب هذه المدرسة على رؤيتهم المتعالية التي لا تؤمن بقدرات المجتمع. لا تجد للشعوب حضوراً في إنتاجه الكتابي، يتعامل مع العالم العربي وفق عقلية ما قبل الخمسينات وزمن الاستعمار. حيث لا يؤثر على أحداث العالم العربي إلا الغرب وأمريكا وروسيا وإسرائيل والعسكر، لهذا يكثر من القصص والحكايات مع السياسين والزعماء. الشعوب ليست حاضرة في ذهنيته. جاءت ثورات الربيع العربي، والأحداث التي تحركت ابتدءاً من صاحب عربة خضار مربكة لأنماطهم الذهنية المشغولة دائما بأمريكاً..وكأنها «المحرك الأول» لكل حدث عربي! حافظ هيكل على لغة مستترة لتأييد أنظمة استبدادية عسكرية في أزمات متعددة، ولم يهتم يوماً ما بدمويتها ضد الشعوب. وعندما تلبست هذه الأنظمة بخيانات مع الغرب لم يهتم بلمزها كما يلمز الأنظمة الملكية العربية الأخرى! في هذا الاتجاه العروبي نفسه تقف جريدة السفير لطلال سلمان.. مع الاستبداد بصورة خفية عبر مقالاته ومهارته الصحفية. يتعالى طلال سلمان على أي منجز للشعوب، فحماسه العروبي لا يظهر مع المجتمع العربي كما ظهر أكثر من مرة لصالح أنظمة استبدادية. فهو ضد الزهو والادعاء بأن «الربيع العربي» قدم أنموذجاً فريداً في باب الثورة الشعبية في القرن الواحد والعشرين. في رأيه أن التسمية غير دقيقة وأنها جاءت مترجمة فلا أثر للعروبة فيها.. ويرى أن الشعارات التي انتصرت معادية للعروبة وترى فيها بدعة استعمارية 28 /12/2011م. يلمز بين فترة وأخرى بالجهود التي تبذل لإنقاذ الشعب السوري. عند حديثه عن دور الجامعة العربية في حسم قضية ليبيا رأى أنه «هيمن عليها حكام الذهب الأسود قد ارتضت أن يركبوها مستظلين شرعيتها المعنوية للذهاب إلى مجلس الأمن (الأمريكي) لتأديب حاكم ليبيا الذي كان يذلهم بأسباب قوتهم ذاتها: النفط و«صداقة» واشنطن و«حاجة» أوروبا» 30 /1 /2012م. عبدالبارئ عطوان في جريدة القدس العربي أطلق مع بداية الثورة الليبية مصطلح «ثوار الناتو» وفي الاتجاه نفسه يشير كتاب آخرون إلى مصطفى عبدالجليل.. بعبد الناتو! ومن أساليب التخفي في مدح النظام السوري وحزب الله وإيران.. يلجأ سميح صعب في جريدة النهار اللبنانية إلى استعمال اللسان الإسرائيلي، فبعد أن يدين الشراكة الأمريكية الإسلامية الجديدة لأنها لا تتطرق مباشرة إلى القضية الفسلطينية، وأن القلق الذي استبد بإسرائيل مع انهيار بعض الأنظمة العربية تلاشى تدريجياً. فينقل عن شمعون بيريس «أن هذا التغيير سيوجد شرق أوسط جديداً على أنقاض «المحور الرديكالي» المتمثل بسورية وحزب الله وإيران «28 /1 /2012م. مع أن تعبيرات القلق الإسرائيلي من سقوط نظام الأسد قائد الممانعة..أكثر من الترحيب بذلك! مثل هذه المواقف تأتي من كتاب صحفيين كبار..أذكياء لا يتورطون في مديح مباشر لهذه الأنظمة الاستبدادية. يدركون صعوبة تلميع أنظمة صدامية أو قذافية. ولحماية مصداقيتهم يضطرون لنقدهم بين السطور، لكنه يبدو أكثر ليونة من مواقفهم مع الأنظمة الملكية في تخوينها وتحميلها مسؤولية الهزائم العربية. يتجاهلون دائماً دور الحماقات السياسية لهذه الأنظمة، وكيف أدت إلى التدخل الأجنبي، وهزيمة العرب أمام إسرائيل! ليست مشكلتنا الآن.. مع فكرة العروبة والقومية، فالواقع أننا منذ أكثر عقدين لا نعاني من تضخم هذه الأيدلوجيا وإنما من ذبولها الشعبي. مشكلتنا مع هذه الأقلام التي استطاعت بمهاراتها الصحفية..إبقاء لغة الشعارات قابلة للتداول الإعلامي في الخطاب السياسي دون مضمون حقيقي للممناعة ولا للعروبة. مقابل هذا الإنتاج الصحفي العروبي الذي خدم الاستبداد، فإن البعض يخلط بجهل أو بعمد.. بينه وبين الإنتاج الفكري والعلمي العروبي الذي تمسك بقدر من الرصانة والعمق عبر تقديم مشروعات فكرية، ومعالجات منهجية متنوعة للأزمات العربية سياسياً واقتصادياً واجتماعياً. حافظت هذه النخب على قيمتها العلمية، وأصبحت مدارس فكرية مؤثرة على أجيال من النخب العربية الجديدة.