في رصده للسينما الجديدة في إفريقيا يرى الناقد السينمائي الفرنسي أوليفيه بارليه أنها تخلصت من عبء ذاكرة مثقلة بماضٍ استعماري وامتازت بإضافات جمالية ولكن النقد التقليدي يغفل ذلك ويكتفي بسرد محتوى الأفلام. ويقول في كتابه (السينما الإفريقية في الألفية الثالثة.. آفاق نقدية) إن وراء هذه الأفلام مخرجين «جددوا في أعمالهم في مواجهة انغلاق الهوية وقدموا مضموناً جديداً دون أن ينفصلوا عن الإرث القديم»، حيث انطلقوا مما يسميه استراتيجيات سريعة لمقاومة التنميط الذي وقعت إفريقيا ضحية له قبل الاستقلال وبعده. ويقول «ينبغي مداومة التصدي لحملات التقليل من شأن إفريقيا… إفريقيا قادرة على تعليمنا كثيراً من الأشياء إذا أردنا الإنصات إليها دون الرغبة في إرشادها بهدف إنقاذها… أنا مهموم بإفريقيا عندما أرى تعرضها لكل أشكال الظلم وعدم المساواة ليس تعاطفاً معها ولكن من جانب الإحساس بالمسؤولية». وبارليه (62 عاماً) له دراسات نقدية كثيرة عن السينما الإفريقية جنوب الصحراء وهو مسؤول تحرير مجلة (أفريكيلتير) المتخصصة في الثقافات الإفريقية. والكتاب الذي ترجمته المصرية عبلة عبدالحفيظ سالم ويقع في 208 صفحات كبيرة القطع أحد إصدارات الدورة الثالثة لمهرجان الأقصر للسينما الإفريقية -الذي اختتم مساء أمس الإثنين في مدينة الأقصر السياحية الجنوبية- وشارك فيه أفلام وسينمائيون يمثلون أكثر من أربعين دولة إفريقية.ويحمل غلاف الكتاب صورة للممثلة المغربية صوفيا عصامي في فيلم (على الحافة) للمخرجة المغربية ليلى الكيلاني.ويقدم المؤلف كتابه بقول أحد أبرز مؤسسي الحركة الأدبية الزنجية الشاعر إيمي سيزار «الخيال وحده يستطيع اليوم أن يصنع شيئاً آخر من العالم، الذي أصبح شبيهاً بصخرة أصابتها صاعقة» وفي الصفحة نفسها يهدي بارليه كتابه إلى الفنان التشكيلي المصري الشاب أحمد بسيوني، الذي توفي في ميدان التحرير بالقاهرة يوم 28 يناير كانون الثاني 2011 «جمعة الغضب» ذروة الاحتجاجات الشعبية، التي أدت إلى خلع الرئيس الأسبق حسني مبارك. ويقول المؤلف إن العالم لا يتوقف عن الحركة وأثناء تأليف كتابه «أدت الثورات العربية إلى تغييرات جذرية في سينما المغرب العربي وفتحت آفاقاً غير مسبوقة» ويستشهد بفيلم (على الحافة) 2011 قائلاً إنه «يعبر عن العصر سواء على مستوى الشكل أو المضمون… يلقي الضوء على واقعنا الحالي بابتكاراته وجمالياته»، مضيفاً أن بطلة الفيلم صوفيا عصامي تعبر عن شباب الربيع العربي.وفي فصل عنوانه (رعب العبور) يستعرض المؤلف أسباب الهجرة غير الشرعية بعد أن ضاقت قرى ومدن إفريقية بأهلها فهي «كثيفة السكان بطالة وبلا مستقبل» حتى أن راعي الغنم لا يكون أمامه إلا الحلم بالعبور إلى الشاطئ الآخر في فيلم (2000 درهم) 2002 للمغربية ليلى المراكشي. أما الشاب في فيلم (حراقي) 2009 للجزائري مرزاق علواش فينتحر تاركاً «رسالة إدانة للوطن الأصلي.. إذا بقيت سأموت وإذا غادرت سأموت» في حين تستورد النخب سلعاً استهلاكية لا تفيد المجتمع.ويضرب بارليه مثالاً آخر بالفيلم الغيني (ذات صباح في وقت مبكر) 2005 للمخرج جاهيتي فوفانا، الذي استند إلى «قصة غير عادية» وقعت أحداثها في الثاني من أغسطس 1999، حيث وجد الشابان الغينيان ياجين كويتا وفودي تونكارا «مقتولين في بروكسل مجمدين ومعلقين في عجلة الهبوط بطائرة».ويضيف أن الشابين تركا رسالة موجهة إلى المسؤولين في أوروبا جاء فيها أن هدف رحلتهما هو نقل معاناة شباب إفريقيا وأطفالها.ويقول المؤلف إن 60% من مجموع سكان إفريقيا دون سن 18عاماً، ولكنهم يرون الأفق مسدوداً في بلادهم والموت منتظراً في الطريق قبل الوصول إلى أوروبا، وهكذا أصبح «الوضع شبيهاً بفخ مغلق على الشباب الإفريقي تماماً مثل تجارة الرقيق» في الماضي.ويسجل قول المخرج السنغالي سامبا ندياي بعد عرض فيلمه (أسئلة الوطن) 2007 «عندما أرى هؤلاء الشباب يسافرون في البواخر مفضلين الانتحار لأنهم لا يجدون حلاً لهواجسهم بشأن مستقبلهم يجب أن نجد جواباً على أسئلتهم وعدم السكوت. إن القدر يتحكم في إفريقيا من جديد» كما يسجل أيضاً «دموع (المخرج الموريتاني) عبد الرحمن سيساكو» خلال مناقشة هذه القضية مع الجمهور في إحدى دورات مهرجان كان. ويتفاءل أوليفيه بمستقبل السينما الإفريقية على أيدي جيل جديد متمرد من المخرجين القادرين على تقديم «مواضيع جديدية قادرة على المجازفة في الشكل والمضمون وطرح أسئلة دون إجابة واستكشاف الإنسان بلا هوادة».