في حالة أشبه ما تكون بدراسة الحالة للدوغما العربية وظاهرة الوثوقية في العالم العربي، لدي صديق من الذين أدمنوا الجزم في كل نقاش سواء أكان دينيا أو سياسيا أو حتى رياضيا، مع أن خلفيته العلمية شرعية. كنا نتناقش ذات مرة عن موقع مثلث برمودا، فأجاب فورا بأنه جزما يقع شرق كندا. فقلت له قرأت كثيرا عن هذا المثلث وأظنه وفق ما أتذكر شرق فلوريدا، فلم يتزحزح ظاهريا أمامنا عن رأيه، لكنه يبدو أنه شك داخليا في معلومته فذهب يقلب عبر الهاتف الجوال في جوجل، فوجد أنه مثلث يقع شرق مدينة ميامي. فرفع رأسه وقال يقع شرق ميامي، قلت وفي أي ولاية تقع ميامي، فأطرق رأسه ولم يجب. قابلت هذا الصديق مذ جئت من البعثة ومنذ اكتشفت أنه من هذه الفئة الدوغمائية أخذت على نفسي نذرا بأن أحاول تحويله من مرحلة الوثوقية إلى التحوط ومن القطعية إلى الظنية في التعاطي مع المعرفة. ووضعت لنفسي هدفا كعلامة على هذا التحوُّل، وهو أن ينتقل في مفرداته من تلك المفردات الوثوقية إلى المفردات الاحترازية، أن يقول ربما عوضا قطعا، وفي ظني عوضا عن جزما. كنت أظن أنه سيتنبه إلى هذا في أسبوع أو أسبوعين، شهر أو شهرين، لكن المفاجأة أنه لم يتنبه إلى هذا إلا في السنة السادسة من لقائنا. الذهنية العربية بشكل عام لديها إشكالية الوثوقية واليقين والنزعة إلى اعتقاد أنها امتلكت ناصية الحقيقة والجزم بمعرفة الكلمة الأخيرة. من أكثر الكلمات الشائعة في تداولاتنا الحوارية، جزما، قطعا، جميعا، كلهم، وما شابهها من المفردات التي تدل على الإحاطة والوثوقية، ومن أقل المفردات التي نستخدمها مفردات من مثل لعل، ربما، قد يكون (للتشكيك)، يبدو، من الممكن، ونحوها من الكلمات التي تدل على الشك والتحوّط. نرى أن عدم الإجابة عن أي سؤال عيب ونعتقد أن محاولة الرد حتى ولو بإجابة لا تمت للسؤال بصلة أمر رائع ويحتوي على شرف المحاولة. « لا أدري» منبوذة « ولا أعلم» نادرة السماع في ثقافتنا. هذا يشير إلى أن إشكالية الوثوقية ربما تكون متغلغة في أذهان شريحة كبيرة من مجتمعاتنا، والوثوقية وإن كانت تعني في ظاهرها الراحة والوضوح وتجعل صاحبها ينتشي بشعور امتلاك الحقيقة، إلا أنها في حقيقة الأمر داء خطير يورث الكسل الذهني ويحيل الإنسان من ذهن متقد مملوء بالأسئلة متوثب بالتشكك إلى مجرد حاضنة أفكار عتيقة ومستعمرة لأخبار مخلوص من شأنها وناجزة. وظيفته في عالم المعرفة ليس التساؤل والتردد وإنما الاستقبال والتكرار والترنّم. وبالمثل، كما يبدو الشك من المفردات المثيرة للريبة غير المرغوب بها في منظومتنا الأخلاقية، فما لا يدركه البعض هو أن الشك في العلم والمعرفة ظاهرة صحية وأداة مهمة لفحص المعرفة وتنقيتها من الأمور الزائفة. حين تشكك في معرفة جاءتك من طرف آخر، فغالبا ما يشعر الطرف الآخر، خصوصا من ثقافتنا العربية، بشيء من التخوين وعدم صلاحيته لحمل الأمانة العلمية، والحقيقة أن هذا التشكيك في كثير من الأحيان لا يمت إلى الناقل بصلة بقدر ما يركز على حرص ذلك الإنسان وحيطته في بناء منظومة المعلومات لديه، وحرصه على تنميتها وإثرائها بطريقة علمية حذرة. وحول الشك واليقين يعُد النمساوي كارل بوبر المولود سنة 1902 من أهم فلاسفة العلم في العصر الحديث الذي ناقش إشكالية القطعية والوثوقية في المعرفة والنظريات العلمية. ولد بوبر عام 1902 في مدينة قريبة من فيينا «النمسا» داخل أسرة مثقفة، فأبوه لم يكن محاميا وحسب، وإنما كان ذا ميول أدبية واهتمامات بعلوم التاريخ والفلسفة والموسيقى الكلاسيكية. وعلى غرار أبيه، سار بوبر في دروب العلم فدرس الرياضيات والتاريخ وعلم النفس والموسيقى، حتى حصل على درجة الدكتوراة في علم النفس الإدراكي عام 1930م. اشتهر بوبر بحضوره في فلسفة العلم وبإحداثه ثورة في المنهجية العلمية ونقل العلوم في الحقول العلمية من مرحلة النواجز التي لا تحتاج إلا إلى التسليم لها والدفاع عنها، إلى مرحلة البقاء في مرحلة الشك الدائم والتساؤلات المستمرة حتى يأتي فتح جديد ربما يجتث النظرية أو الحقيقة السابقة ويُحل محلها نظرية جديدة، تأخذ مكان النظرية السابقة في استقبال الشكوك الجديدة والتساؤلات الوليدة، وهكذا تستمر سلسلة التطور العلمي والمعرفي بنظريات تحطم النظريات السابقة وتفتح آفاقا جديدة في العلم. وعلى هذا فالمعرفة في التصور البوبري ليست عبارة عن تراكمات علمية تجريبية، يبنى بعضها على بعض، كما صورها ديفيد هيوم ومن تبعه من فلاسفة العلم، وإنما عبارة عن مادة ديناميكية متحركة متطورة، عبارة عن مباراة أو مبارزة ذات بداية لكنها مفتوحة النهاية، وأي طرف فيها يظن أنه قال الكلمة الأخيرة، فهذا لا يعني صدق ما قال بقدر ما يعني إفلاسه وانسحابه من المواصلة في مبارزة العلم، ومن ثم انتهاءه واحتراق ما جاء به من معرفة. في مفهوم الحقيقة، بعد أن عاصر بوبر تدمير النظرية النسبية لأنشتاين لبعض النظريات الفيزيائية التي كان ينظر إليها على أنها مسلمات علم لا تقبل الدحض أو التفنيد، لما رأى هذا جاء بتحديد جديد ومهم في تعريف الحقيقة وهو قابليتها للفحص والتمحيص. وهذا يعني أن أي حقيقة أو معرفة تعرض على أنها مسلمة مطلقة فالأقرب أنها باطل مطلق، لأنها لم تجتز محكات النقد، ولم تتعرض للفحوصات التي تتلمس مواطن الخلل وتناقش مكامن العلل. والحال كذا، لا نعلم كيف ستكون ردة فعل بوبر لو مرَّ على عقلياتنا العربية، التي لم تؤسس على التجارب ولم تعرف معنى المختبرات والحقول العلمية، وإنما على كثير من الخرافة والأساطير والشعوذة. بهذه الذهنية الوثوقية، أصبحنا نتبوأ المركز الأخير في أي منافسة دون منازع، سواء في الاختراعات العلمية أو في المسابقات الرياضية، أو في التصنيفات العلمية. اطلعت على التصنيف الأخير للدول العربية في مهارة القراءة للعام 2011، الذي شاركت فيه 59 دولة، ولم أكلِّف نفسي باستعراض القائمة من أولها للبحث عن الدول العربية. كل ما كان علي هو أن أقلب القائمة من أسفل لأبحث من الأخير وفعلا بدأت الأسماء العربية تخرج واحدا تلو الآخر حين قلبت القائمة. كنت أود إعداد الدراسة التي تحت يدي عن مقارنة مستويات القراءة في العالم العربي ببقية دول العالم، لكن نتائج دولنا العربية جعلت هذا الهدف غير ذا قيمة علمية، لأن الفروقات بيننا وبينهم شاسعة، مما اضطرني إلى تحويل هدف الرسالة من المقارنة مع العالم على التنافس حول المقدمة، إلى المقارنة بين الدول العربية في قدرتهم على صدارة المؤخرة.