هل يحكم على سكان قطاع غزة بالعيش داخل أسواره فقط، يعيشون فيه، ويموتون فيه، وفي ترابه يدفنون، ومنه يبعثون، فلا يخرجون منه إلى العالم، ولا يتجاوزون حدوده إلى الدنيا، ولا يتعدون عتباته أبداً. هذه ليست مبالغة، ولا هي تخاريف أو محاولة لتهويل الأوضاع في غزة، بل هي حقيقة، إذ إن مئات الآلاف من سكان قطاع غزة، لا يغادرون حدوده، ولا يتجاوزون بواباته إلى العالم عبر مصر، أو إلى أرضنا المحتلة في العام 1948، اللهم إلا الذين يغادرون وهم مرضى، محمولين على حمالة، ومنقولين في سيارات الإسعاف، فإن أكثرهم يغادرون إلى الخارج للعلاج، لكنهم يعودون أمواتاً، وينقلون في توابيت، ليدفنوا في ثرى غزة، ولست في هذا مبالغاً، فوالدي واحدٌ منهم، وهو مثالٌ على الحصار والإغلاق. يستغرب القادمون من غزة المسافات الطويلة، والرحلات البعيدة، فيجدون أن قطع مسافة مائة كيلو متر بالسيارة أمرٌ مهول، ومسافة عظيمة، وهي أكبر بكثيرٍ مما تعودوا عليه، إذ إن أطول مسافةٍ في قطاع غزة لا تتجاوز 46 كيلومتراً، من أقصى بيت حانون، حتى الحدود المصرية في رفح، ما يجعل عالمهم صغيراً، ودنياهم ضيقة، وبلادهم صغيرة. حتى أن أهلنا يعتبرون الانتقال من مخيم جباليا إلى مدينة رفح سفراً، وأحياناً يبيتون في رفح أو خان يونس التي لا تبعد عن بيت حانون أكثر من 30 كيلومتراً، بغية الراحة من السفر، فضلاً عن أنهم يعدون العدة لزيارة رفح أو خان يونس، ويتهيأون لها قبل القيام بها بفترةٍ كافية. أليست جريمة كبيرة ضد الإنسانية، أن يسجن ملايين الفلسطينيين، وليس فقط مليوني فلسطيني، إذ إن أموات غزة وهم مئات الآلاف أيضاً، كانوا محرومين وممنوعين من السفر، ولم يسمح لهم وهم أحياء بمغادرة قطاع غزة، ولا تجاوز حدوده وبواباته، الأمر الذي يجعل من هذه الجريمة مستأصلة وقديمة، وتتوارثها الحكومات، وتوصي عليها السلطات. من يتحمل المسؤولية القانونية والأخلاقية والإنسانية إزاء هذه الجريمة، التي تتعارض ونصوص القوانين الدولية، وشرائع حقوق الإنسان، ومواثيق جنيف وغيرها، إنها ليست حرماناً من تعليمٍ وعملٍ ودراسةٍ، إنها جريمة ضد الإنسان في حقوقه البسيطة، وأحلامه العادية. نخطئ تماماً إذا قلنا إن الاحتلال وحده هو المسؤول عن هذه الجريمة النكراء، إنه مسؤولٌ بلا شك، لكن يشاركه في الجريمة آخرون.