أبت ملحمة جلجاميش أن تكون حبيسة أدراج رئيس شركة أرامكو السابق عبدالله جمعة، وفرضت معانيها الإنسانية عليه إخراجها إلى العلن، في ترجمة بدا له أن تكون خاصة به، فيما هي توسدت ألواح ورق طيني اللون، ولتفصح عن وجودها في حفل تنازع على تجسيدها الشعر والمسرح والنقد والدراسات التاريخية والأسطورية واللغوية والتشكيل. الملحمة التي أغوت المترجمين والباحثين، علهم يعثرون على «نبتة الخلود» ويشاركون «الملك جلجاميش» في قطف ثمارها، مارست غوايتها على عبدالله جمعة عقدين من الزمن، حتى آمن أخيرا أن الثقل يحتاج إلى قلوب أخرى تشاركه رفعه، مبتدئا بنسخ محدودة لأصدقاء مقربين ومنتهيا بطبعة يمهرها بتوقع يربطه ب»جلجاميش». واحتضن مسرح جمعية الثقافة والفنون في الدمام حفل إطلاق «ملحمة جلجاميش»، التي نظمته بالتعاون مع «المحترف السعودي للإخراج الفني والإنتاج» تمكنت ملحمة جلجاميش من عبدالله جمعة، حتى لم يستطع الفكاك منها طوال سنوات، بدأت مع أول نص قرأه حين كان طالباً في الجامعة الأمريكية في بيروت، وقبل أن يتحول إلى موظف ترجمة في شركة أرامكو السعودية، وقبل أن يتغافل عنها ويصبح رئيساً للشركة، ورافقته ترجمة «ن. ك. ساندرا» للملحمة، يعود لها بين حين وآخر، حتى عزم على ترجمتها إلى لغة تكون أقرب إلى سطوة معاني الملحمة بدلاً عن أن تكون مجرد حروف لا تشي بحياة حافلة بالخوف من الموت. وساق جمعة تبريرات حمده القوم على عدم التزامه بها، معلناً أن «الاهتمام بالملحمة لم يكن لتقديمها كعمل أدبي يتداوله الناس، وإنما كنت أقرأها وأعيد قراءتها، وكنت أود تحويل النص إلى لغة تستثيرني شخصياً، لم أكتبها للمتخصصين وإنما لنفسي»، ويظهر هذا الأمر مبرراً في عدم قراءته أي من نصوص الملحمة المترجمة قبل عمله، ويبرز ذلك حين أعلن في الأمسية اطلاعه على ترجمات بعد طبع الكتاب، موضحا «قرأت شذرات من ترجمة العلامة طه باقر حديثاً، كما وقعت يدي على ترجمة لفراس السواح»، وقاده توضيحه إلى التدليل على اختلاف ترجمته عن بقية الترجمات، حين قرأ نصاً من ترجمة «ساندرا» وآخر لفراس السواح، مبيناً أن «ساندرا أول من وضع النص في سياق متصل، لكن نصها كان يحمل معاني إنسانية هائلة فيما لغته الإنكليزية ركيكة»، فيما «السواح ترجمته علمية محايدة». ترجم جمعة نصف الملحمة، ثم تركها جانباً مدة عقدين من الزمن، فيما ظلت تلح عليه بين فترة وأخرى، حتى عكف على إكمال العمل في منتصف العام 1997م، إلا أن إكمالها هنا عنى له النقص، فعاود الترجمة «عشر مرات»، مضيفا «كنت أعيد النظر فيها كل مرة، ومع لوم الأصدقاء على عدم إخراجها قررت تسلميها إلى المحترف السعودي، شارطاً أن تطبع منها 200 نسخة فقط، طبعة أولى للأصدقاء المقربين»، إلا أن هذا الخيار لم يكن مرضياً للمقربين، ما دعاه إلى اتخاذ الخطوة الأخرى، مبينا «دفعت بها إلى العلامة محمد الطحلاوي، لينظر فيها نظرة شاملة، بغية أن لا يكون فيها لحن»، مبررا «كنت حريصا أن تخرج الملحمة من دون لحن، وقدم الطحلاوي كثيراً مما كان في النص من هنَّات». ويرى جمعة أن الجمال في الملحمة لا يقتصر على النص، إنما يمتد إلى شكل الكتاب الذي أخرجه «المحترف السعودي»، مبيناً أن كميل حوا صمم الكتاب، الذي احتوى خطاً عربياً قريباً من الخط المسماري، اخترعه مأمون أحمد، وزين الكتاب بصور تجسد الملحمة من عمل عمر صبير، وأخيرا «بعد نقاش طويل خرج الكتاب إلى العلن. مزج كميل حوا، مدير المحترف السعودي، في تصميمه الكتاب بين عناصر عدة، وضع على رأسها «الصدفة» التي قادت شركة صناعة ورق إلى إرسال عينة من إنتاجها الجديد إلى «المحترف»، وكان أن رأى فيه حوا المطلوب لاكتمال عناصر خلق ملحمة جلجاميش، وذكر أن «أهم دافع في إيجاد عمل فني الحماسة»، وفي أثناء الحماسة تلك «تأتي الصدفة لتكمل جمال العمل ورونقه»، موضحا: بعد فترة وجيزة من العمل على الكتاب، أرسلت شركة ورق عينات من ورق جديد لونه كالطين اليابس، وكأنه عجن وخبز خصيصاً لهذا الكتاب». وتصور حوا الشكل الذي سيخرج عليه الكتاب، وقال «تهيأ لي الشكل الطولي، لما سيجد علاقة الأسطورة بالسماء وقعر البئر العميق الذي غطس فيه جلجاميش بحثاً عن نبتة الخلود»، كما «جاء تصميم الغلاف وعنوانه العمودي ليؤكد هذا التوجه»، وأدخل في تصوره أن تكون للكتاب رسوم تتموضع في عمقه، مضيفا «ربما شعور داخلي بأن جلجاميش ينتمي إلى مجتمع إنساني لا يزال في عمق الوجود، ويبحث عن مصدر للنور، لذلك جعلت أرضية الصفحات سوداء كاملة أو شبه كاملة، وعمل الزميل أحمد مأمون على ابتداع حرف عربي جديد يشبه الخط المسماري، استخدمناه في الاستشهادات المصاحبة للرسوم التي رسمها عمر صبير، ما أعطاها رونقا». رأى الباحث الدكتور سعد البازعي في ترجمة عبدالله جمعة اختلافاً عن الترجمات السابقة، وفي ورقة ألقاها في أمسية توقيع الكتاب، ذكر أن «الأمر يتضح من قراءة النص في عربية تستمد خصوصيتها من بلاغة القرآن تارة، ومن توسل روح الشعر العربي تارة أخرى، ومن جزالة اللغة الأدبية الموروثة، لتصبح الترجمة أو القراءة الخاصة مشروعاً يبتعد عن الترجمة بمفهومها السائد، ليقترب مما يمكن دعوته تعريباً ل»جلجاميش»، بالمعنى الأوسع والأعمق للتعريب، أي إضفاء روح الثقافة العربية على ذلك العمل الموغل في العراقة السامية القديمة، ويصبح النص المعرب نوعاً مما يعرف بالإنجليزية «الادابتيشن»، أي التكييف بمعنى نقل روح النص لا دلالاته الدقيقة». وذكر أن الترجمة تسعى إلى شعريتها عبر لغة جزلة ومتماسكة موقعة بالوزن حيناً وبالجناس حيناً، لغة يسعى المترجم إلى إعادة كتابة الملحمة من منطلق أن ترجمة الشعر لا تكون بالتتبع الحرفي، إنما بالتمثل المستمد من خصوصية اللغة المنقول إليها، بحيث ينسى القرائي أنه يقرأ نصاً مترجماً» افترض الباحث الدكتور محمد الخزاعي في ورقته «ملحمة جلجامش وعلاقتها بدلمون»، أن الملك الباحث عن الخلود قصد دلمون بحثاً عن نبتة الخلود، أو بحسب ما يراه بحثاً عن «لؤلؤة سحرية» في مياه الخليج العربي، وبخاصة في مناطق منه تعرف بالمغاصات «الهيرات». ورأى في الملحمة تقود إلى ثلاثة عوامل جغرافية وتاريخية وأسطورية، كما تعتبر نصاً وضعياً يكثر فيه العبر والحكم. وأشار إلى اختلاط التاريخ بالًأسطورة ما أبدع أدباً يمزج الواقع بالخيال، مضيفاً أنها تتطرق إلى مواضيع أساسية إنسانية وسياسية وروحية. الملك جلجاميش: الملك الخامس في سلسلة ملوك حكموا مدينة أوروك (الوركاء) في العراق عام 2650 قبل الميلاد، وحكم جلجاميش 126 عاماً. شغل المسرح الفنان راشد الورثان نحو ربع ساعة، مجسداً فيها دور الملك جلجاميش وبحثه عن الخلود، واقتبس الورثان نصه المسرحي من الكتاب، وساعده في ذلك ديكورا توزع على جنبات المسرح. فرشت الجمعية بسجاد أحمر من بوابتها الرئيسة مروراً بالمسرح ووصلاً إلى قاعة الفنان عبدالله الشيخ، حيث شهدت معرضاً فنياً لرسوم الملحمة وتوقيع الكتاب، بصحبة عزف على الكمان والقانون. قدمت الحفل الإعلامية ناهد الأحمد. قرأ الدكتور سعد السريحي نصاً مغايراً للملحمة. توزعت الملحمة على 131 صفحة، وصممها كميل حوا، فيما كانت الرسوم المرافقة للكتاب من رسوم عمر صبير، وصمم الحرف الخاص مأمون أحمد.