ضمن الحملة القائمة في الرد على أفكار الجهاديين ومواقفهم المتشددة من مختلف الأطراف، صدر قبل عدة أيام بحث جديد مفصل من قِبل جمعية هنري جاكسون في بريطانيا، التي تُعنى بأبحاث الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان -كما تعرِّف نفسها- تحت عنوان «دليل الرد على الجهاديين: نقد ادعاءات الجماعات الإسلامية المتطرفة حول المشروعية الدينية». الباحثان القائمان على المشروع هما رشاد علي وهنا ستورات المتخصصان في الشريعة والعلاقات الدولية، وجاء بحثهما في حدود المائة صفحة، وحصل على دعم وتأييد من شخصيات ومرجعيات إسلامية عديدة. عمل الباحثان على تفكيك المفاهيم الدينية والفكرية التي يستند عليها الجهاديون من خلال رصد تطور هذه المفاهيم ومقارنتها مع ما هو سائد في الفكر الديني التقليدي في العالم الإسلامي خاصة لدى المذاهب السنية الأربعة. يتميز البحث بأنه لا يقتصر على مناقشة المفاهيم الفكرية والدينية من زوايا نظرية فقط، بل يعكسها على المواقف من القضايا والتطورات المعاصرة لمختلف هذه الجماعات الجهادية، خاصة تلك التي تنتهج أسلوب العنف في عملها. ينقسم البحث إلى قسمين رئيسين: الأول يناقش مفهوم دار الإسلام مقابل دار الحرب، وحجم التباين في التمييز بينهما، وفي حدود المفهوم بين الفكر التقليدي والمشروع الجهادي، وما ينعكس على هذا من إضفاء شرعية على مواقف فكرية وعملية ضد مَن هم خارج دار الإسلام باعتبار أن الجهاد ضدهم واجب ديني. كما يؤكد الباحثان أن هذا المفهوم لم يكن متداولاً في الأدبيات الأولية لدى المسلمين، وإنما تطور في عصور لاحقة بقصد تأطير المساحة التي يتمتع فيها الإنسان المسلم بحريته في الحكم والعبادة وإظهار الشعائر الدينية. ويرد الباحثان على المنطلق الديني لمطلب إقامة دولة الخلافة وتوسعة رقعة دار الإسلام، على أن ذلك لم يكن وارداً في سياقات المصادر الدينية التقليدية، وأن علماء المذاهب السنية يرون أنه متى ما تمكَّن المسلم من التمتع بإقامة شعائره الدينية في بقعة ما فإنه لا ينبغي الجهاد ضدها أو الهجرة منها. وحول مفهوم إقامة دولة الخلافة، يناقش البحث الطرح المتشدد لدى الجهاديين الذين يرون في ذلك ضرورة تستدعي مواجهة الحكومات المحلية المتعددة، بينما قراءات فكر علماء المسلمين الأوائل تنتهي إلى أن الهدف هو تحقيق الوحدة بين المسلمين حتى لو تعددت دولهم، وليس فرض إقامة دولة واحدة تجمعهم بالقوة. ينتقل القسم الثاني من البحث إلى مناقشة مواضيع حيوية وعملية كإعلان الجهاد والعمليات الانتحارية، ويناقش مشروعيتها بناءً على آراء علماء المسلمين المختلفين مقارنة مع أفكار ومواقف الجهاديين. يؤكد البحث على الرأي التقليدي السائد لدى علماء المسلمين بأن إعلان الجهاد أمر منحصر للقائد السياسي للدولة، وأن ذلك يكون ضمن محددات من بينها أن يكون دفاعياً وضمن ضوابط وتقديرات ضيقة، بينما يتوسع الجهاديون في التطبيق ويمنحون شرعية إعلانه لقياداتهم وتحت تبريرات أكثر اتساعاً. كما يقارن البحث بين مواقف كل من الجهاديين والعلماء التقليديين من العمليات الانتحارية، وكذلك حول الضحايا المدنيين فيها، فينطلق الجهاديون من مبدأ (الضرورات تبيح المحظورات) لتبرير قيامهم بذلك، بينما الرأي الفقهي السائد واضح في احترام نفس الإنسان والحفاظ عليها. البحث بشكل عام يشكل مساهمة لتوضيح الرأي الفقهي المعتدل الذي يسير عليه أكثرية علماء المسلمين، ويواجه بصورة موضوعية ومقارنة الأفكار والآراء التي تستند عليها الجماعات الجهادية، ليعطي صورة للغربيين في الأساس بأن هذه التوجهات لا تمثل الرأي السائد بين عموم المسلمين. لكنه في ذات الوقت يتجاوز عدة قضايا هي محل إجماع في الوسط الإسلامي وبالتالي يعطيها مشروعية من قبيل القبول باتفاقيات السلام كافة، وتأكيد صلاحيات شاملة وواسعة للسلطات السياسية دون مشاركة الشعب بناءً على المفهوم الديني التقليدي. يفتح البحث أبواباً واسعة للنقاش والتفكير والجدل حول عديد من المفاهيم السائدة والمنتشرة في أوساط الجهاديين مفنداً إياها، وهو جهد يستحق التقدير وبحاجة ماسة إلى مواصلته بصورة أكثر تفصيلاً لمختلف المواضيع المطروحة فيه.