على هامش أمسية «جذور العنف الجندري ومعالجاته» للدكتورة هالة الدوسري في منتدى الملتقى الثقافي بالقطيف مساء الخميس الماضي، سألت الضيفة العزيزة عن فاعلية الحركة النسوية وأبرز معوقاتها، فأجابت بإسهاب كعادتها مشيرة إلى أن العمل النسوي مازال يتلمس طريقه، وأن العائق الثقافي هو من الضخامة بحيث يستدعي تجلداً وصبراً إذ لا داعي للعجلة. وخطر بذهني على الفور أن الاستعجال الفكري الملاحظ في مجالات وحقول عديدة هو نفسه الذي يفتك بهذا النشاط الفتيِّ «الحراك والنشاط النسوي». كنا أمام فكر عجول وها نحن نجد أنفسنا أمام عجلة نسوية، عجلة في حيز لا تنبغي فيه العجلة. توطين الحقوق النسوية، شأنها شأن كل وافد حديث بحاجة إلى تَبْيِئة. لن تتوطن هذه الحقوق بغير تبيئة تستدعي تمهيداً فكرياً، لكن الملاحظ أن الاستعجال النسوي يهمل الفكر بقفزة بهلاونية نحو عمل ونشاط حقوقي يقارب الإشكالية بمعالجة قانونية في مراوحة دائمة بين الحق والتجريم؛ بين الحق في الحماية من العنف وبين تجريمه، رغم ما يكتنف التحديد القانوني والحقوقي من ثغرات تُطاول المفهوم، مفهوم العنف ومفهوم الجندر، بل تتعداهما لتضع الحق والنسوية نفسها موضع سؤال. دائماً ما نصل متأخرين، تتحول العجلة إلى بطء سلحفائي كنتيجة مأساوية لإهمال الفكر والتمهيد الفلسفي الكفيل وحده بأي توطين مشتَهَى، الاستعجال في مقاربة الوضع النسوي حقوقياً، أدى وفي مفارقة مدهشة إلى عدم الوعي بحجم التجاوزات الفكرية والتساؤلات المحيطة بالمفهوم الأيقوني للعمل النسوي، حيث النسوية اليوم، وقد صارت علامة استفهام كبيرة، ليست سوى خطاب استعارته المرأة من الرجل، غريمها التاريخي. «لا نولد نساء بل نصبح كذلك».. هكذا وفي صرخة احتجاجية «ناعمة» تُدشن ما بعد النسوية، تلك النسوية يجب أن تشطب، إنها، وكما تعبِّر إحداهن، خطاب ضحية لمستعمر ذكوري. العمل الحقوقي والنسوي لم يعد كافياً في وسط يهيمن عليه الذَّكَر، حيث يتوجب، ضمن استراتيجية القلب المعروفة جيداً في سياسة المابعديات، تغيير الأولويات: أن نعكس الترتيب الشائع في الفقه النسوي، فبدل البدء بالنتيجة «الحقوق» يتعين أولاً كسر الهيمنة الذكورية بكل حمولاتها وتغلغلها اللامرئي، لصياغة مفهوم جديد تستعيد المرأة بفعله ذاتها الضائعة. تاريخ من الاغتراب، تاريخ حميم يربط الجلاد بضحيته، أذكر هنا السيرة الذاتية «كامليا» للكاتبة الإيرانية كامليا انتخابي فرد، فالعذاب والاستعمار الذكوري يحمل في طياته عشقاً فريداً يجمع بين ضابط المخفر/ الحارس الأمين للثقافة الذكورية/ الجلاد المداعب بالسياط، وبين ضحيته، الأنثى التي فقدت القدرة على المقاومة ففقدت الكلام ثم كنتيجة تلقائية فقدت هويتها.. لتصبح المرأة الصورة، المرأة الموديل، المرأة الستار ونجمة هوليود.. بؤرة النظرة والتحديق الذكوري وموضوع الفرجة الإمتاعية.. المرأة الجوهرة.. المرأة النفيسة/ بيت تحيطه الحراسة والندرة الاقتصادية، لتؤول أخيراً للمرأة الجسد، فالجسد الأنثوي، بما هو «منطقة خاصة بالرجال» هو أيكولوجيا القوة: محل لممارسة السلطة.. الرجل هو الذي يتكلم وهو الذي يتكلم من خلالها، وما تاريخ النسوية إلا تاريخ ضياعها.. تاريخ تموضعها وتشيُّئها.. تاريخ إخضاعها، ترصيعها، تزيينها، أو لنقل «جسدنتها» حيث تعدُّ وعلى نار هادئة لتصبح جاهزة ومؤهلة ثقافياً وقانونياً لدور الجوهرة: المرأة تساوي جسدها. واحدة من المستعجلات كتبت ذات يوم حول المعنى وتبديده ضمن توزيع جندري حاد، لتعيد الصياغة الأزلية أو التأثيث العريق لبيت الأنوثة، ورغم أن شطب النسوية يحيل كل شيء إلى ثقافي ويضع حداً للفصل «الأقنومي» بين الذكورة والأنوثة، نجد الكاتبة العجولة تشطر القاموس متماهية دون وعي -على الأرجح- مع سيد الخطاب ومُنشئه: عالم الرجل وعالم المرأة.. الأنثى، الذكر.. النعومة والحزن والخشونة أو الصلابة والمرح… لِمَ كل هذا التقسيم المانوي؟ أجد تهافتاً بيناً في خريطة الكلمات وبنية الخطاب لدى السيدة الكاتبة التنويرية «أتحفظ على اسمها»، فبين صياغة إنشائية تؤثثها الأسئلة وبين تقريرات ثنائية تأخذ شكلاً مؤدلجاً مانوياً لجنسانية فجة منشطرة بفعل مقص مفهومي بائس مازال يجترح ذلك النزوع الكلياني.. وكأن السيدة لم تسمع بعد بحادثة الموت: موت الكلي والمفهوم والكلمات المتسيِّدة. بين النسوية وما بعد النسوية موت الكلي، فانتفاضة المرأة ضد تجسيدها «تحويلها إلى مجرد جوهرة» تستدعي ذلك الإجراء السديمي الأكثر ثورية والأكثر نيتشوية وقلباً وخلطاً للأوراق، أعني كسر التنميط الكلياني الشمولي «التوتاليتاري» للجندر، فهذا الجندر «النوع الاجتماعي» حصيلة لتواطؤ، الجندر ينشأ كلعبة، إنه شيء يُبتكر، شأن أي تحديد ثقافي. موت الكلي بعد نسف التشييء الجسدي يخلط الأوراق في فوضى لنجد قلباً في الأدوار ونافذة لتفردات جندرية كانت ولا تزال -في وسطنا طبعاً- موضوعاً لتجريم وإدانة. «في كل ذكر أنثى، وفي كل أنثى ذكر». يموت الكلي فتتحول النسوية إلى نسويات ساخطة متعددة، رغم الترسانة الهائلة من التوحيد والتنميط الممارس يومياً بدءاً من الشعر ووصولاً للاقتصاد والدعاية والتسويق. وإذا كان «الرجال يفعلون، والنساء يظهرون» فالسؤال التراجيدي: هل ثمة جدوى لأي عمل حقوقي نسوي دون تمهيد فكري وتوطئة مفهومية؟ الدكتورة هالة الدوسري التي بذلت جهداً بحثياً مقدراً ومشكوراً، لم يكن بوسعها إلا أن تقرَّ، على شكل اعتراف، أن أي نشاط حقوقي دون تبيئة هو مجرد ترقيع وعمل عجول وضجيح فارغ، لكن ذلك لم يأت دون سبب، فكثير من الحقوقيات والنسويات مجهزات فقط لممارسة عمل حقوقي ولسن ضليعات في فلسفة هذه الحقوق.. وفي وسطٍ توشك فيه المرأة على الانقراض إلا فيما وراء المدينة، تبدو الحقوقية فارسة توقد شمعة «حقوقية» ولا تلعن ظلاماً «فكرياً».