تعد قلة الإنتاج الثقافي الأصيل والمؤثر، واهتراء المؤسسات الثقافية العربية بوجه عام، من أبرز سمات واقعنا الثقافي الراهن. وليس ثمة خلاف حول هذا التردي الثقافي، وما يرتبط به من غيابٍ للخطاب التنويري الحقيقي. ولكن الخلاف يكمن حول الأسباب الكامنة وراء هذا التردي، وبالتالي سبل معالجته. ويحمّل بعضهم كامل المسؤولية عن تدهور الوضع الثقافي العربي، لمؤسسات النظام العربي الرسمي التي تهيمن على مراكز إنتاج الثقافة والمثقفين وخطابها الأحادي، حيث تقوم مؤسساتها التعليمية والثقافية المتخلفة بعملية حصار – مقصود أو غير مقصود – للعقول الناشئة التي يجب إفساح المجال لها للنمو والانخراط في عملية إنتاج الوعي. في حين يرى بعضهم الآخر أن النخبة المثقفة هي التي تخلت عن واجبها، وعجزت عن القيام بدورها التاريخي المطلوب في بناء ثقافة وطنية أصيلة، فعلقت فشلها وعقمها هذا على شماعة النظام العربي الرسمي وتخلف مؤسساته. والحقيقة أن كلاً من الرأيين يحتوي في طياته جانباً من الحقيقة، فمظاهر الاستبداد بأشكالها المختلفة و(المتطورة) تساهم في تعميق العقم الثقافي، بل وفي إنتاجه دون شك. على أن ذلك لا يعفي المثقفين من دورهم في مقاومة هذا الوضع المتردي، وفي خلق هوامش للإنتاج الفكري وتوسيعها، وتسخير معارفهم في بناء ثقافة ذات عمق اجتماعي، ستساهم دون شك في كسر هيمنة القبضة الأمنية، والخطاب الأحادي. ومن ناحية ثانية، فإن استسلام المثقفين وتباكيهم على الحريات العامة، والمؤسسات الثقافية، أمرٌ يزيد من تعقيد المشكلة، لأنه يورط المثقفين في السلبية حيناً، وفي التعالي على الآخرين حيناً آخر، إلا أنه لايعفي النظام الرسمي من مسؤوليته التاريخية عما ينتجه أسلوبه الإقصائي من تعطيل للفكر وحصار للإبداع. ألم يقل «عبد الرحمن الكواكبي» قبل أكثر من قرن إن «المستبد يلعب بالعقل فيفسده»؟ إذاً فإن ثمة علاقة جدلية بين خطاب النظام العربي الرسمي، وبين سلبية المثقفين واستسلامهم. فازدياد ضعف المثقفين وعدم قدرتهم على الحراك الحقيقي. وضعف هؤلاء وتشتتهم، أدى بالمؤسسات الثقافية إلى الضعف والاندثار. ويمكن القول إن النظام العربي الرسمي بوصفه قائد للمجتمع والمهيمن عليه، يتحمل مسؤولية تاريخية كبرى، عن وصول الوضع الثقافي إلى ما هو عليه اليوم، وبالتالي فإن المثقفين الحقيقيين هم من تقع على عاتقهم مسؤولية النهوض بالمهمة التاريخية في البدء بالسير للخروج من عنق الزجاجة، لأنهم هم حملة الوعي ومنتجوه، وهم النخبة التي يفترض فيها أن تقود المجتمع – بالمعنى الفكري- لتحصيل حقوقه، وأولها حقه في الوصول إلى الوعي وإعادة إنتاجه. إن النظام العربي بحكم طبيعته وارتباطاته، عاجز عن الخروج بالمجتمع من واقعه الثقافي المتردي، وقد لا يكون لأغلب حكوماتها رغبة في ذلك، وبالتالي فإن المثقفين هم المعوّل عليهم في خوض غمار هذه المعركة الفكرية والمعرفية الملحة، وهذا يتطلب منهم شجاعة فكرية في الإشارة إلى مواضع العطب، وفي ابتداع الوسائل والأدوات للدخول إلى المناطق المحرمة في الفكر والوعي، ومحاولة استغلال كل المساحات المتاحة، وخلق مساحات جديدة. فالاستسلام لواقع ثقافي أبسط مظاهره أن الشعب العربي من أقل الشعوب قراءة على وجه المعمورة.