قدرت بعض المصادر حجم الأراضي الزراعية التي تستثمر فيها المملكة عبر رجال أعمالها في الخارج بعشرات الآلاف من الهكتارات، في حين لا تتجاوز مساحة الأراضي الزراعية المحلية 300 ألف هكتار، ما يمنح الاستثمار في تلك الأراضي بعداً استراتيجياً، حيث تقدر نسبتها إلى الأراضي المحلية بنحو 44%. وكشفت مخاوف المستثمرين السعوديين في الزراعة الخارجية، عن جملة من التفاصيل تحيط بأعمالهم، ولا تحظى في الوقت نفسه بتحرك تشريعي ينظم لها بيئة العمل التي تحمي استثماراتهم التي تقدر بمليارات الدولارات، وتؤمن في الوقت نفسه مصدراً دائماً للمنتجات الزراعية والحيوانية التي تشكل عصب الأمن الغذائي، بدعمها النشاط الزراعي المحلي وعائداته. ولعل مما يثير القلق، أنه لا تتوافر معلومات دقيقة عن أعداد المستثمرين في الخارج وحجم استثماراتهم وأعمالهم بشكل موثق، ونتاج تلك الأعمال، وسياساتهم المستقبلية على الأقل لخمس سنوات قادمة من واقع اتفاقياتهم الموقعة مع حكومات تلك الدول، ومدى توافق سياساتهم مع سياسات الاستثمار الخارجي الذي توجهه الدولة. وتركت المسألة لتقديرات عشوائية غير موثوقة ما يجعل هناك نوعاً من الريبة بشأن مردود سياسات الإقراض على الاقتصاد الوطني. والغريب أن وزارة الزراعة لم توفِّر معلومات كافية عن هذه الأمور، على الرغم من أنها المعنية بها، على الأقل من منطلق التخصص. رغم أن تقريراً خليجياً أشار إلى وجود نحو 86 صفقة أراضٍ خليجية في كمبوديا و71 في إثيوبيا. مع وجود صفقات غير محددة التفاصيل على غرار ما أشيع حول شمول الصفقات السعودية في إثيوبيا لنحو مليون هكتار، من أصل مليون و 713 ألف و357 هكتاراً «يقال» إنها تمثل إجمالي الأراضي المستثمرة سعودياً في الخارج. ولا يتفوق خليجياً على المملكة سوى الإمارات في هذا المجال، التي تستثمر فيما يزيد على مليون و882 ألف هكتار فيما تستثمر قطر أكثر من 624 ألف هكتاراً في الخارج. وكانت مبادرة الملك عبد الله قد حملت توصية بالعمل على وضع آلية لتسلم المحاصيل المنتجة بالخارج، بالأسعار العالمية العادلة التي تحقق هدف المستثمر وتساعده على استمرار استثماره. ووضع آلية للخزن الاستراتيجي للسلع الأساسية للتعامل مع الأزمات وتقلبات الأسعار. وأشارت إلى إمكانية تمويل تكاليف مشاريع البنية الأساسية المرتبطة بهذه الاستثمارات. وتأسست الشركة السعودية للاستثمار الزراعي والإنتاج الحيواني في الخارج «سالك» بموجب أمر سام. أما المنتجات الأساسية المستهدفة من هذه الاستثمارات فتغطي المحاصيل التي توجد قيود على زراعتها في الداخل بسبب ما تتطلبه من كثافة مائية، ومن ذلك محاصيل الأرز، والحبوب الزيتية، والقمح، والسكر، والشعير، والأعلاف الخضراء، والذرة، والمنتجات الحيوانية والسمكية، وفول الصويا. ومؤخراً كشف وزير الزراعة فهد بالغنيم عن أن سقف التغطية المالية التي تكفلها القروض الزراعية الخارجية لن يتجاوز 60% من تكاليف المشروع وهو ما حسم كثيراً من التكهنات التي طالت جدوى هذه القروض ومدى فعاليتها في مواجهة أعباء الاستثمار الخارجي. وفيما تستهدف المملكة 31 دولة باستثماراتها التي ارتبطت بقيود محددة وهي مدى الوفرة المائية في تلك الدول، ومدى ملاءمة تشريعاتها للاستثمار ومناخه، فضلاً عن استكمال جميع الشروط اللازمة لطلب القرض، فإن الأهم لم يذكر وهو عائدات تلك الاستثمارات الحالية على الاقتصاد السعودي وجدوى تلك التسهيلات التي يقدمها صندوق التنمية الزراعية للمستثمرين وحجم الواردات الناتجة عن تلك المشاريع السعودية، ومدى التغطية التي توفرها المحاصيل المزروعة في الخارج للاحتياجات الداخلية. وتمثل إثيوبيا وكمبوديا حالتين في غاية الأهمية للاستثمار الزراعي السعودي، لتشابه الظروف المناخية والطبيعية بين البلدين، ثم للتسهيلات غير المحدودة التي تمنحها حكومتا هاتين الدولتين لجذب الاستثمارات الخليجية. ومؤخراً أشارت مصادر إلى أن أكثر من 400 مستثمر سعودي يملكون استثمارات في إثيوبيا يقدر حجمها بنحو 13 مليار دولار (حوالي 48 مليار ريال). وأعيد طرح إشكاليات هؤلاء المستثمرين مؤخراً بعد أن نشطت حملات تصحيح أوضاع العمالة الإثيوبية في المملكة التي أسفرت عن ترحيل أكثر من 60 ألف إثيوبي مخالف. وعلى الرغم من أن هذا يمثل حقاً طبيعياً للمملكة التي تسعى لتنظيم سوق العمل الداخلي، فإن المستثمرين في إثيوبيا صعدوا من شكواهم من ردة فعل المجتمع الإثيوبي على هذه الإجراءات، ومدى القبول والفرص التي كانت متاحة لهم قبلها. لكنهم من ناحية أخرى، أثاروا مسألة القروض وما اعتبروه شروطاً تعجيزية من قبل صندوق التنمية الزراعية على قروض الخارج، لدرجة جعلت بعضهم يلوح بسحب استثماراته من الخارج أو تجميد أعماله. وبينما يشكِّل المستثمرون السعوديون اللاعبين الرئيسيين على مستوى الاستثمار الزراعي في إثيوبيا، دخل السوق الإثيوبية مؤخراً منافسون جدد، من الهند التي تخطط إحدى شركاتها لتأجير 300 ألف هكتار لإنتاج السكر والأرز. كما دخلت قطروالإمارات والكويت والبحرين على خط المنافسة مؤخراً. ولم يعد الأمر مقتصراً على مسألة الاستثمار الزراعي وعلاقته بالأمن الغذائي خليجياً، بل لوحت بعض الأطراف الخليجية بإمكانية تحسين تلك الاستثمارات ولكن مع ربط ذلك بملف السد الإثيوبي الذي أثار أزمة مصرية/إثيوبية مؤخراً. ويبدو أن المزايدات حول أزمة السد ستشعل أسعار الأراضي وشروط الاستثمار في إثيوبيا، وهو ما يمكن أن يلحق الضرر بالاستثمارات السعودية التقليدية هناك. وتبدو ضخامة المنافسة الإماراتية على المنتجات الإثيوبية من استقراء واقع الواردات الإماراتية من المنتجات الزراعية والحيوانية التي تهيمن إثيوبيا على 50% منها، فيما تعمل في السوق الإماراتية نحو 213 شركة إثيوبية وتخطى حجم التبادل التجاري بين البلدين حاجز 200 مليون دولار. لكن إثيوبيا التي تعد من أفقر دول العالم، مع كثافة سكانية تناهز التسعين مليون نسمة، وتوقعات بأن تتجاوز كتلتها السكانية حاجز 170 مليون نسمة بحلول 2050، نجحت في أن تجعل من أراضيها الخصبة بؤرة جذب وتنافس عالمية خاصة مع ما تشكله أراضيها الخصبة من مساحات شاسعة تقدر بنحو 65% من مساحتها. ويبدو أن إثيوبيا تعلق ناظريها على تنميها تلك الاستثمارات بغض النظر عن أية اعتبارات، خاصة في ظل ما يعكسه السد الإثيوبي من فرص هائلة لتوليد الطاقة وتأمين مزيد من المياه المهدرة، حتى أصبح رهان الاستثمارات الخليجية يدور حول تلك الفرص الواعدة في مجال الأمن الغذائي والطاقة فضلاً عن الفرص التي سيتيحها القطاع العقاري لاحقاً مع تنامي الكتلة السكانية لإثيوبيا. أما على صعيد كمبوديا، فإن دراسة حديثة صدرت في 2013 حول استثمارات دول مجلس التعاون الخليجي في الأراضي الزراعية بالخارج، أجراها بنجامين شيبرد الباحث في برنامج الأمن الغذائي في مركز دراسات الأمن الدولي التابع لجامعة سدني، أشارت إلى أن الاستثمارات الأجنبية في مجال تنمية الزراعة الخارجية، أصبحت تشكل عصب استراتيجية الأمن الغذائي لدول الخليج العربية، خاصة في كمبوديا وإثيوبيا. لكن الدراسة وصفت حيازة الأراضي الزراعية في هاتين الدولتين بأنها تمثل استراتيجية سيئة وخطيرة، ليس فقط على صعيد تأمين إمدادات غذائية دائمة لدول مجلس التعاون الخليجي، وانما أيضاً ما تعكسه من مخاطر تتعلق بعدم الاستقرار في الدولتين اجتماعياً وأمنياً بالتالي، خاصة مع احتمالات متزايدة لتجريد السكان في المجتمعات المحلية من ممتلكاتهم وإصابتهم بالفقر على غرار ما حدث في أراض استثمرها مستثمر سعودي شهير في إثيوبيا رغم أنه منح تعويضات جيدة لمالكي تلك الأراضي. وتتخوف الدراسة من إمكانية أن ينشأ عن الترحيل القسري للسكان في مناطق الاستثمار الزراعي الخليجي في تلك الدول حالة من عدم الاستقرار تعود بانتكاسة على الاسثتمارات الخليجية هناك. ولفتت إلى أن دول الخليج تحتاج إلى مراجعة ثلاثة جوانب في استراتيجياتها للاستثمار الزراعي الخارجي. يمثل الجانب الأول، مدى التوافر طويل الأجل لواردات غذائية كافية يمكن الحصول عليها من تلك الاستثمارات، وبخاصة لمنتجات الأغذية الرئيسة. أما الثاني فيتعلق بكيفية توزيع الإمدادات على نحو عادل في المجتمع لضمان حصول السكان عليها، فيما يتعلق الجانب الثالث بمدى حصول سكان المجتمعات التي يتم الاستزراع فيها على نصيبهم من تلك المنتجات الزراعية خاصة إذا واجهت حكومات تلك الدول أزمات احتجاجية أو اضطرابات بسبب نقص المواد الغذائية في البلاد. وعلى الرغم من أن هذا الجانب الأخير لا يدخل في مسؤوليات المستثمرين الخليجيين هناك، فإنه يمثل احتمالاً يجب أن يؤخذ في الاعتبار عند وضع الشروط التعاقدية في الاتفاقيات الإطارية الموقعة. وهو أمر جوهري لضمان أمن تلك الاستثمارات. ودعت الدراسة إلى مراعاة الحدود الفاصلة بين الاستثمار الذي توجهه الدولة، وبين الذي توجهه مؤسسات خاصة. فقد تتلاقي المصالح بين الجانبين، لكن الوارد أيضاً أن يحدث تضارب في المصالح ولو جزئياً، وهو ما يبدي المستثمرون السعوديون بشأنه مخاوف من أن تصبح قروض صندوق التنمية الزراعية وسيلة لتوجيه استثماراتهم نحو منتجات معينة تحتاجها الدولة في إطار سعيها للأمن الغذائي، ربما بعيداً عن منتجات يرون فيها ربحية عالية لاستثماراتهم. وربما فسر ذلك قلق بعض المستثمرين من شروط القروض الخارجية لصندوق التنمية الزراعية. ويتيح الاستثمار في كمبوديا ظروفاً مناخية مشابهة لظروف إثيوبيا بخاصة من حيث المناخ الملائم لزراعات مثل الأرز والذرة والصويا والسكر. ولا تواجه كمبوديا كوارث طبيعية كبيرة إذ تبدو جغرافياً محمية جيداً من الزوابع والأعاصير ومستقرة جيولوجيا. وإن كانت تعاني مشكلات في جاهزية البنية التحتية وهي مشكلات يمكن للاستثمارات الأجنبية أن تعالجها خاصة في ظل الفرص التي تعكسها السياسات المالية الرأسمالية التي تجعلها وجهة جذب للمستثمر الأجنبي، مع استقرار نسبي على الصعيد السياسي. وأنشأت الحكومة الكمبودية عملية عرفت بامتيازات الأراضي للمنفعة الاقتصادية من أجل توفير شبه ملكية للأجل الطويل لمساحات شاسعة من الأراضي للمستثمرين، وذلك بهدف تحقيق التنمية الاقتصادية. وبالتالي، تمنح امتيازات تصل إلى 10 آلاف هكتار لمؤسسات محلية أو أجنبية بشروط إيجار تتراوح بين 70 و 99 عاماً مع إمكانية تجديدها. لكن على الجانب الآخر، يبدو أن عملية منح امتيازات الأراضي الاقتصادية التي لا تتوخى الصرامة من حيث تقييم الأثر البيئي أو الاجتماعي، مدخلاً سهلاً للمستثمرين الأجانب، غير أن تكاليف تلك الممارسات غير واضحة، مع تجاهلها الفادح للقانون. وهذا ما تفسره الخلافات، والمنازعات، وأعمال العنف الناجمة من عملية منح امتيازات الأراضي الاقتصادية في كافة أنحاء البلاد. ومعروف أن غالبية صغار المزارعين من الكمبوديين لا يملكون سندات رسمية للأراضي، ويفتقرون إلى القدرة على إثبات حقهم التاريخي في الأرض. وبالتالي، يصبح من السهل على الحكومة أن تصنف أو تعيد تصنيف أراضٍ «كأراضٍ خاصة للدولة»، فتصبح ملائمة لمنحها كامتيازات، وتعد هذه من بين المشكلات الأكبر على صعيد منح امتيازات الأراضي الاقتصادية، وهي تثير مشكلتين بالنسبة إلى المستثمرين الأجانب الذين يبحثون عن أراضٍ. حيث يصبح من الصعب في غياب صكوك رسمية تثبت الحيازة استئجار الأرض من شاغليها والتأكد من أن الإيجار مأمون. كما أن الحصول على أرض في إطار امتياز الأرض الاقتصادية قد يعرض المزارعين وشاغلي هذه الأرض إلى تجريدهم من أرضهم وطردهم منها قسرياً، علماً بأنهم يعتمدون عليها في حياتهم وسبل عيشهم. ولاشك أن الغموض الذي يحيط بحقوق الأراضي وسندات الملكية في كمبوديا، إضافة إلى سعي الحكومة إلى وضع يدها على الأراضي وإعادة توزيعها على المستثمرين الأثرياء المحليين والأجانب على السواء يفضي إلى خلافات حول الأراضي، وعمليات طرد قسري، وأعمال عنف في كافة أنحاء البلاد. وما ينطبق على كمبوديا يمكن بسهولة أن ينطبق على إثيوبيا، إذ قد تعصف التقلبات السياسية غير المحسوبة بحقوق المستثمرين هناك، حتى مع وجود اتفاقيات إطارية تحكم العلاقات الاقتصادية بين المملكة ومستثمريها وبين هاتين الدولتين (وغيرها من الدول). إذ قد يحدث نزع ملكيات أو تأميم ملكيات ما قد يعصف بالاستثمارات الخارجية التي تعمل غالباً في أجواء سياسية غير مستقرة. ومن ثم يفترض أن تحسم الدولة موقفها في ظل هذه الاحتمالات، وقبل أن تدخل في سياسات إقراض طويلة الأمد، حيث يؤمن ذلك أموال المستثمر وقروض الدولة له، ويضمن استمرارية تلك المشاريع والاستثمارات. وتبقى مسألة الاستثمارات الخارجية في المجال الزراعي ميداناً حافلاً بالفرص الواعدة، غير أنه مع تسييل الرساميل السعودية بهذا الاتجاه أصبح بحاجة إلى ضبط منهجي من قبل الوزارة وبالتنسيق مع فعاليات المبادرة حتى يحقق المردود الآمن على المملكة ومستثمريها ويحق أهدافه.