كنت تحدّثتُ في صحيفة (الوطن) عندما كان يحق لي الكتابة فيها عن هذا المصطلح، آملاً -بهذا- الوصول إلى تحقيقٍ فنِّيٍّ بيئيّ لغويّ لنصوصٍ شعريّة حواها كتاب (امتاع السامر) الذي قامت بتمويل تحقيقه دارة الملك عبد العزيز وصولاً إلى أنه منحول، رغم أنه يحوي سماتِ المكان ونصوصاً شعريّة نعرفها ونعرف جغرافيّتها الفنّيّة والطبيعية وكل ما ورد فيها من أماكن.. ولعلاقة هذا الأمر بموضوعي (صناعة الموالي ولغة العرب) الذي شرُفَ بموازاته بمواضيع من الكتّاب الرائعين: د. حمزة المزيني، ود. منيرة الأزرقي، وأ. مجاهد عبد المتعالي، ومداخلين أثروه كثيراً، لهذا قررت طرحه هنا، علّ أحبتي في بقية أقاليم جزيرتنا العربية يلتقون معي بطرح أدب هذه الأقاليم بهذا المصطلح، ونجد في أشعارها الفصحى أو الشعبية (الأفصح والألصق) ما يثري الموضوع الرئيس (صناعة الموالي ولغة العرب)، وريثما ينتهي أخي حمزة من وصوله إلى رأي واضح في جوهر ما طرحته.. شاعرنا اليوم: علي بن الحسين الحفظي، عالم وأديب من نوابغ رجالات العائلة العلمية الشهيرة (آل الحفظي). ولد في بلدة (رُجال) سنة1217 ه، وتوفي عام 1275 ه، ونصه ضمن الكتاب المذكور وكل ما صدر عن أدب المنطقة ومنها كتاب: شعاع الراحلين للمرحوم (عبد الرحمن الحفظي) وسواهما. المناسبة: انتصار المنطقة على جحافل الغزو التركي سنة 1269ه. النص: قصيدة داليَّة تتكون من 72 بيتاً بدأها بقوله: أيا أمَّ عبدٍ ما لكِ والتَّشرّدِ ومسراكِ بالليلِ البهيمِ لتبعديْ ومأواكِ أوصادُ الكهوفِ توحشاً ومثواكِ أفياءُ النُّصوبِ وغرقدِ ما يلفتُ النظرَ في هذه القصيدة هو: ذلكم الخطّ المتأثر بعمود الشعر العربي القديم ولكنْ بخصوصية المكان، بمعنى أن العمود الشعري التقليدي في القصيدة القديمة يعتمد المقدمة الطللية -غالباً- أو الغزل المباشر. أما شاعرنا فقد تأثر بهذا مضفياً عليه مسحةً رقيقة تميل إلى النظرة الصوفية التي كانت ترقق كثيراً شعر أولئك العلماء، ولذا كانت (أم عبد) لديه تأوي أوصاد كهوف الجبال وأفياءها: وما جاورَتْ ساقاكِ منْ سفح رَهوةٍ وأشعافها ما بين عالٍ ووُهَّدِ ومن مقدّمته الموازية (للطَّللية) نجدُ جغرافية اللغة دالَّةً مكانيَّة ودالَّة روحيَّة رمزيّة، مما يمتلئ معه النص بمصطلحات لغوية مكانيَّة جديرة بالدراسات الأدبية. النَّص بني على حوارية من النَّسيب الروحي بين (أبي عبد) و(أم عبد)، وكانت (أم عبد) هي راوية الوقائع وواصفتها: فقالتْ رويداً يا أبا عبدِ إنما أضاقَ بنا ذرعاً شديد التَّوَعُّدِ عرمرمُ جيشٍ سيقَ منْ مصرَ معنفاً يُهتِّكُ أستارَ النِّساءِ ويعتدي تلكم نظرة عامة لهيكل النص، غيرَ أن ما يهمني فيه هنا أمران: الأول: تاريخيته التوثيقية لتلكم الأحداث بشكل مفصَّل يغنينا عن الاختلافات الناتجة عن ضعف وقلة ما بين أيدينا من التاريخ المكتوب عن هذا الجزء من الوطن، فذكر شاعرنا أيام هذه المعارك وأماكنها ذكراً مفصلاً جمع بين التأريخية والشاعرية عالية المستوى: فيا لكِ من يومِ (الحفيرِ) وما بدا ل(رَيْدَةَ) مِنْ طُولِ الغمامِ المُشيَّدِ! ويا لكِ مِنْ يومِ اللحومِ سباعُهُ شِباعٌ، وطيرُ الجوِّ تحظى لمشهدِ تطامتْ رقابُ (الرومِ) فيها عيوقها كما عاقَ دودٌ للجرادِ المقدَّدِ ويا لكِ مِنْ يوم (المِرارِ) لواؤهُ تقنَّعَ بالصَّرعى بهِ كلّ مقصدِ ويا عجباً مِنْ فَيّ (حَبْضا) وما دَنا لواديْ (كِسانٍ) منْ قتيلٍ مُسَنَّدِ وفي ربوةِ (الشِّعْبَينِ) داهية أتتْ عليهمْ فما أغنى دفاعٌ بعسجدِ ويوم (المُقَضَّى) قدْ تقضَّتْ أمورهمْ بقاصمةِ الظَّهرِ التي لم تُضَمَّدِ والنص كاملاً يجمع بين تاريخية الحدث، وتوثيق أسماء الأماكن، في شاعريَّة نادرة، وقدرة عجيبة. ف: الحفير- رَيدة: معقلان للحكم مشهوران في سراة عسير– المرار: موقع شهير في جبل قيس بألمع– حبْضا: عقبة معروفة في ديار ألمع (أعالي وادي الصّليل)، والفَيُّ: كل جانب جبل يقل عليه شعاع الشمس – وادي كسان: أحد أشهر أودية ألمع – الشعبين: المركز الحالي لمحافظة ألمع – المُقضَّى: أحد الأوطان الشهيرة قرب بلدة (السقا) بسراة عسير. القصيدة مملوءة بأسماء الأماكن، وقدرة الشاعر ظهرت في سبك هذه الأماكن مع علو الشاعرية، ولذا فأنا لم أجدْ في هذه القصيدة أن شاعرها تأثَّر بغيره من الشعر العربي القديم سوى بالشكل السائد (العمودية)، وأنه ينتمي إلى مدرسة خاصة نبعت من المكان ومن روحية شعر العلماء وهو أحدهم، وبهذا أزعم أننا أمام مدرسة شعرية كانت في تلكم الحقبة لا تآثرَ لها إلا مع شعراء المخلاف السليماني واليمن، وهي تجمع بين الصوفية المعتدلة (الروحية الدِّينية) وبين العِلمية والشعرية الملتزمة بحكم أن أولئكم الشعراء من العلماء الذين لم يتجردوا للشعرية، وإنما كان الشعر أحد أساليب الإيصال والتعبير لهم. الثاني: الجغرافيَّة اللغوية التي يختصُّ بها النصّ، وارتباطها بالمكان، سواء من حيث الصور، أو الكلمات الدالَّة، وسأضرب منه بعض أمثلة: -1 الصورة الصوفية الخفيفة التي ألمح إليها شاعرنا برمزية (أم عبد – أبي عبد)، بحيثُ سرد أحداثه الشعرية سردياً بينهما وجعلهما راويين دون أن نجد ذاتيَّة الشاعر تسيطر على النّص، وكون (أم عبد) تأوي أوصاد الكهوف متوحشة في جبالها، مما صبغ النص بصبغة المكان وجعل هذا الجو الصوفي نابعاً منه بجباله ووهاده وعقباته وأوديته، مفسراً توحشها بقوله: فما مثلُ هذا منكِ إلاَّ لضيقةٍ من العيشِ أو من سوءِ أخلاقِ معتدِ -2 تلكم الألفاظ المستخدمة في النص التي ظهرت قدرته فيها بحيث جمع بين اللفظة المحكية والكتابية المعجمية، وفي هذا دلالة على أن الكلمات البيئية المستخدمة حالياً هنا أصولٌ لغوية قد لا تدركها المعاجم التي رصدت اللغة من خلال المنقول منها عبر ما كتب إبان قرون الكتابة والرصد اللغوي في أماكن ازدهاره خارج هذه الجزيرة.. ومن أمثلة هذا من النص: ومسراكِ من ذات العميق وكوثرٍ ونَهران مزورّ القذال الملبدِ (ذات العميق – كوثر – نهران: أماكن شهيرة في عسير). وقوله: كَأَنَّ تِقِحاَّمَ الشَّريدِ وُعُورَهُ قُرُودٌ نَحاَها فَجْأَةً أَعْسَرُ اليدِ كلمة (تقحام): كلمة مشهورة تستخدمُ في حالة كثرة الهبوط من الجبل، فيقولون: اقتحم من الجبل، والتقحام هو كثرة الهرب أو الهبوط بخوف، وهي غير المصطلح اللغوي المعروف: اقتحم المكان… وصورة هرب القرود التي نعرفها هنا عندما يرون (أعسر اليد) وهو: النمر العربي المشهور في جبال عسير، ويعرف عنه أنه أعسر اليد يلمخ بيده اليسرى. وقوله: كما ثرَّ مِنْ عينٍ ب(رملانَ) وحشُهُ يُجفِّلُهُ قناصُهُ بالترصّدِ وادي رمْلان: واد شهير في تهامة معروف بصيده ووحوشه الضارية. وقوله: ولاحَ (سُهيلٌ) ضاحكا لك ثغره وقدْ لمحَتْهُ عينها مَفْلِقَ الغدِ نجم سهيل: يستخدم بيئياً رمزاً للنماء والخصب والبذر. والملحوظ أن تحقيق كتاب (إمتاع السامر) لم يتطرقْ إلى زيف مثل هذا النص، نظراً إلى تواتره بين الناس.