لم يبق سوى أشهر قليلة على موعد الانتخابات البرلمانية القادمة في العراق التي ستسفر عن تشكيل حكومة الأربع سنوات القادمة.. صراع ما قبل الانتخابات العراقية هو الأكثر عنفاً وتداخلاً بالإشكاليات.. فالمالكي الذي ترأس الحكومة العراقية للدورتين السابقتين يسعى بأي وسيلة للبقاء في السلطة خاصة بعد أن تمكن في السنوات الأخيرة من الإطاحة بمعظم خصومه.. إلا أن عداء الغرماء السياسيين وخاصة داخل الائتلاف الشيعي، وفشل المالكي في إنهاء كامل لملف العنف في البلاد بالتزامن مع استشراء لفساد مالي كبير في الدولة مع إشكالية تتعلق بتنامي اللاعدالة الاقتصادية نتيجة التوزيع غير العادل للثروة.. ومخالفة النص الدستوري المتضمن لجعل دورات الرئاسة للشخص دورتين فقط.. كل هذه أزمات تواجه المالكي الذي بدا أكثر ثقة في إدارة اللعبة مؤخراً بعد العملية العسكرية الكبيرة في غرب العراق.. إلا أن إعادة ترؤسه الحكومة سيبقى غير مؤكد.. إن لم تكن مستبعدة. قبل عامين لمح النائب عباس البياتي أحد أقطاب حزب الدعوة الإسلامية الذي يتزعمه المالكي بنية الحزب إعادة ترشيح المالكي لدورة رئاسية ثالثة معللاً أن الإشارة الدستورية لعدم التجديد لا تشمل رئيس مجلس الوزراء «الحاكم الفعلي» بل تشمل رئيس الجمهورية «المنصب الشرفي»، وما إن سرى هذا التلميح إعلامياً حتى واجه موجة من الرفض والازدراء الرسمي والشعبي.. وخاصة من الخصوم السياسيين.. وربما هذا الرفض المسبق دفع المالكي للعب عديد من الأوراق وتكثيف الرهانات لضمان فرصته بالتجديد وإن كانت رغبته تتقاطع مع استقرار البلاد التي أنهت عامها العاشر متعثرة بالوصول إلى استقرار ما بعد التغيير. التهور السياسي العاثر للإخوان المسلمين في المنطقة كان لصالح تجدد آمال المالكي في البقاء في السلطة.. فعلى عكس ما توقعه الإخوان بالاستفزاز الطائفي في العراق بغطاء تركي وبتلميحات مصرية اعتبرت عدوانية تجاه الشيعة.. فضلاً عن القلق الشعبي مما يحدث في سوريا مع سيطرة جماعات دينية على مناطق محاذية للعراق والتهديد بنقل الصراع الطائفي للداخل العراقي مجدداً، لكن الحشد الطائفي تجاه العراق انتهى بنتائج عكسية في العراق الذي شعر أغلبيته الشيعية وأقلياته القومية والدينية الأخرى بخطر تمدد الإسلام الإخواني المتشدد باسم السنة مما جعل الفرصة سانحة أمام المالكي للبقاء بدواعي الحفاظ على الاعتدال الشيعي في مواجهة خطر التطرف القادم إلى العمق العراقي المحتقن. التداعي السوري السريع وصعود مد الجماعات العنيفة الإرهابية على الأرض السورية تزامن مع تزايد احتجاج شعبي سني عراقي انطلق كرد فعل على إيقاع المالكي بكبار خصومه من القيادات السنية بعد أن أجبر نائب الرئيس طارق الهاشمي زعيم الحزب الإسلامي العراقي «الإخوان المسلمين العراقيين» للهرب إلى تركيا بعد أن حكم بالإعدام لاتهامه بالتورط بدعم عمليات قتل إرهابية جرت في العراق.. وما تلاها من إلقاء القبض على حماية وزير الماليةالعراقي رافع العيساوي القيادي البارز في جبهة التوافق السنية.. وقبل هذا وذاك إقصاء أبرز القيادات السنية الدينية بتهم الإرهاب وهروبهم من البلاد كما الحال مع حارث الضاري رئيس هيئة العلماء المسلمين وعدنان الدليمي الذي غادر العراق تاركاً مركزه السياسي كزعيم لجبهة التوافق العراقية الكتلة النيابية السنية عبر صفقة سرية مقابل إطلاق سراح ولديه المدانين بإدارة مجموعة إرهابية مسلحة.. بالتالي ومع تنامي شعور الإقصاء السياسي وبوجود دعم إقليمي ابتدأت احتجاجات واعتصامات في مناطق غرب العراق ذات الأكثرية السنية وسرعان ما انضمت للاحتجاجات التجمعات السنية العشائرية «الصحوات» التي عرف عنها تقاربها السابق مع حكومة المالكي. الاحتجاجات السنية غرب العراق وعلى الرغم من سلميتها الظاهرية إلا أن طياتها حملت استفزازات صريحة للحكومة من خلال تبني نسق طائفي تحريضي في كثير من الأحيان وعبر تجديد نداءات دعوات الانفصال عبر إقليم سني أو بالتهديد بزحف الاعتصامات نحو بغداد وبطريقة تحاول أن تدفع الحكومة لرد عنيف للتورط بدماء شعبية وليتكرر المشهد السوري بحذافيره.. إلا أن من أعد لهذه الاحتجاجات فشل في التخطيط.. فنمطية المشهد السوري كانت حاضرة وبحذافيرها من مسميات صلوات الجمع إلى مصطلحات اللجان الشعبية مروراً بنسق التحريض الطائفي الذي قلل من جماهيرية الاحتجاجات.. من جهة أخرى وبخطوة للتهرب من التصادم الرسمي مع الاحتجاجات الشعبية.. عاد المشهد الطائفي للاشتعال وبضراوة وبمسمى جديد عرف بجيش المختار وبشخصية جديدة على المشهد العراقي عرفت باسم واثق البطاط.. الذي برز كزعيم جماعة شيعية مسلحة تنادي بتحريض طائفي عنيف وبالتدخل المسلح في حال أي تحرك سني على غرار المشهد السوري، وبطبيعة الحال فأي باحث سياسي فطين سيدرك أن البطاط وجيشه ليس سوى لعبة موازنة أو ورقة لعب رابحة قدمها المالكي تجاه رهان الاحتجاجات السنية التي راهنت على الاستفزاز للدخول في جو العنف.. في الوقت الذي نأت معظم الجماعات الشيعية الكبرى السياسية والمسلحة بالابتعاد بذاتها عن الصدامات والعنف والانضمام للعملية السياسية عبر الانتخابات البرلمانية.. لعب البطاط الشخصية غير المعروفة الذي لا يمتلك أي دور سياسي.. دور المستعد للمواجهة بصبغتها الطائفية المسلحة.. كبديل عن الحكومة التي تخشى التورط في العنف الشعبي، بالتالي بقيت الحكومة وعلى رأسها المالكي يسعون للحلول السياسية لإنهاء الوضع المرتبك. بطبيعة الحال فحصاد التحريض الطائفي للاحتجاجات جناه المالكي الذي كانت الاحتجاجات تخطط لإسقاطه!! وعلى عكس ما رأى بعضهم بأن نجاح المالكي جاء بهيمنته على مفاصل الدولة الأمنية كالجيش والداخلية والأمن والمخابرات، الحقيقة أن المالكي كان ولا يزال يواجه إشكالية قبول كبيرة داخل العراق بسبب الفشل في حل المشكلات الأمنية والاقتصادية والخدمية.. إلا أنه حصده لثمار الرهان الطائفي جاء لأن المحتجين لم يجلبوا أفكارا لبدائل سوى مزيد من العنف والصدامات الأهلية.. وهذا ما جعل العراقيين يشعرون بأن المالكي أفضل إذا ما قورن بحرب أهلية على غرار المشهد السوري المظلم. من جهة ثانية يرى آخرون بأن تدرج الأحداث حتى عبر الصدفة أحياناً سار لصالح المالكي فمرض الرئيس طالباني الذي أبعده عن المشهد السياسي العراقي لم يخلق فراغاً لكرسي رئيس الجمهورية الشرفي بل أخلى الساحة السياسية من عراب خطير أجاد اللعب على أوتار الموازنة لدرء الخلافات الشيعية السنية لمرحلة طويلة من عمر العراق الجديد.. ومن جانب آخر كان لفشل القائمة العراقية وتبعثر أعضائها إلى كتل صغيرة متنازعة على المناصب دوره الكبير في تحطم صورة وشعبية آياد علاوي المنافس الأبرز للمالكي في الانتخابات السابقة، ومن جهة أخرى فعلى الرغم من موقف حكومة المالكي الداعم لبقاء الرئيس السوري في السلطة إلا أن ما حدث في سوريا بجزء من المشهد كان لصالح حكومة المالكي.. لأنه صنع التقارب العراقي – السوري الذي فشلت كل مبادرات السنوات السابقة بتحقيقه.. ولعل جنوح الخط الرئاسي الجديد في إيران نحو التقارب مع المجتمع الدولي رغبة في إنقاذ الجمهورية الإسلامية من الغرق الذي أوصلها له الإبحار عكس التيار في عهد الرئيس نجاد، ربما التحول في الموقف الإيراني قلل من ضغط النفوذ الإيراني داخل العراق الذي وصل إلى مراحل التدخل بالقرار العراقي وبمواقف العراق الدولية وبطريقة عمقت من فجوة العلاقات العراقية – العربية نتيجة تحديات الأزمة الطائفية إقليمياً في السنوات الأخيرة. ولعل تقلبات المشهد التركي وانحسار أسطورة أردوغان بعد موقفه الغريب من دعم الإخوان المسلمين في مواجهة إرادة الشعوب العربية وما جره عليه المشهد السوري من جهة وحركات الاحتجاج الداخلي من جهة أخرى.. مما أدى إلى انخفاض التأثير التركي لاستمرار الاحتجاجات السنية غرب العراق، وفي ضوء كل هذه المتغيرات سافر المالكي إلى الولاياتالمتحدة رغبة في وضع حد للمشهد المتأجج بالعراق ولآخذ الضوء الأخضر الدولي لمهاجمة معسكرات الجماعات الإرهابية القادمة من سوريا التي استقرت في مناطق عشوائية نائية من صحراء العراق.. زيارة المالكي لواشنطن اكتنفها غموض مستغرب ففي الوقت الذي قطع المالكي فيه زيارته قبل نهايتها بساعات وبتكهنات عديدة بفشلها كانت النتيجة معاكسة باستلام الجيش العراقي الطائرات المقاتلة الأمريكية التي لطالما انتظرها.. وما هي إلا أشهر قليلة حتى ابتدأت العملية العسكرية الكبرى لإنهاء وجود المعسكرات الإرهابية في غرب العراق وما رافقها من دخول الساحة الاعتصامات الكبرى وإنهاء كافة مظاهر الاحتجاج وإلقاء القبض على قادة المحتجين وخاصة المحرضين طائفياً منهم.. وعودة التجمعات العشائرية «الصحوات» للقتال إلى جانب الجيش العراقي ضد الجماعات الإرهابية التي دخلت عبر الحدود السورية. المالكي وبحركة تفسر الدعم الأمريكي الأخير له بعد الجفاء الطويل بينهما.. أعلن أثناء إنهاء الجيش العراقي للاعتصامات في المناطق السنية، إلقاء القبض على واثق البطاط المحرض الطائفي الشيعي.. وبطريقة جمع الأوراق المتناثرة ألقى بجميع المحرضين على العنف المسلح سنة وشيعة في المعتقل.. بالتالي وبخطوة فسرت باليائسة أعلن نائب الرئيس العراقي الهارب طارق الهاشمي استقالته من منصبه وهو في تركيا بطريقة حاول بعضهم تفسيرها بالسخرية والعجز.. إلا أن آخرين وجدوها خطوة عميقة تفسر انتهاء الدور التركي في العراق. وإن كان المالكي نجح في الحد من وقوع الصدام الطائفي.. إلا أن هذا ليس كافياً لعبور الأزمة وإقناع الأطراف السياسية بالتجديد له، ففكرة بقائه وتجديد الرئاسة لدورة ثالثة تقلق الجميع لما تحتويه من استئثار كبير للسلطة يقترب إلى الديكتاتورية التي يمقتها العراقيون.. كما أن بقاء المالكي يتداخل معه كم من الفساد المالي والتدهور الخدمي واللا حلول الأمنية التي تسبب انزعاجا دائما للمواطن العراقي وحالة من الهجرة العكسية الغاضبة من استمرار التردي واللا استقرار في البلاد. ومع بدء العد التنازلي لموعد الانتخابات يبقى السؤال ما السيناريو الذي يعده المالكي للتشبث بالسلطة خاصة وما عرف عن الرجل من جنوحه للصفقات من فوق وتحت الطاولة.. المتتبع الدقيق للمشهد العراقي يدرك بأن أكثر الرافضين لتجديد المالكي هم حلفاؤه داخل الائتلاف العراقي الشيعي وأبرزهما مقتدى الصدر زعيم التيار الصدري الذي أعلن مراراً أنه سيقف بالضد من أي محاولة تجديد للمالكي خاصة أن عديدين يرون أن تيار الصدر الذي حصل على ثاني أكبر نسبة مقاعد داخل الائتلاف الشيعي في البرلمان من الممكن أن يكسب منصب رئاسة الوزارة بتنحية المالكي.. ومن جهة أخرى يبرز دور المجلس الأعلى الإسلامي الذي يتزعمه عمار الحكيم الذي بدا أكثر برجماتية وفي الوقت الذي اعتقد عديد أن تياره انهار، عاد وبقوة في انتخابات المجالس البلدية قبل عامين مقدماً تياره السياسي كحركة معتدلة أقرب إلى خط المرجعية الدينية.. ومن هذا يجد عديدون أن إمكانية إعادة الحكيم لترشيح عادل عبدالمهدي نائب رئيس الجمهورية الأسبق والمرشح الذي خسر الرهان أمام المالكي في الدورة الانتخابية الأولى ليقف مرة أخرى أمامه. أما الباحثون بين الأسطر ومتلصصو السمع خلف الجدران فيراهنون على صفقة تجري بين المالكي وأسامة النجيفي رئيس البرلمان العراقي والقيادي السني البارز بأن تجدد قائمة النجيفي الانتخابية للمالكي مقابل منحه منصب رئاسة الجمهورية وإعادة رئاسة مجلس النواب للقائمة الثالثة الكردستانية.. في حين لمح آخرون إلى إمكانية استخدام المالكي ملف النائب البرلماني المعتقل أحمد العلواني بخلفية تورطه في قتل جنود عراقيين أثناء اعتقاله والمتورط سابقاً في تصريحات طائفية تهدد النسيج الوطني، مع إشارة لصفقة قد تكون انتهت بإعلان مدينة حلبجة التابعة لمدينة السليمانية صفة المدينةالعراقية التاسعة عشرة رسمياً بعد أن كانت مجرد مدينة صغيرة تابعة للسليمانية بإشارة إلى موقعها الوجداني الكردي لارتباطها بقصة القصف بالغازات الكيماوية عام 1987 تلك الجريمة التي حولها الأكراد إلى مسألة دولية لجلب الرأي العام الدولي نحو قضيتهم. وإن كان للتيارات الإسلامية بشقيها الشيعي والسني الدور الكبير في التنازع على السلطة في العراق يتكرر السؤال حول التيارات العلمانية التي قد يكون وجودها في السلطة حيلولة دون عودة اللهجة التحريضية بين الطائفتين وحلاً لعدم شكوى أي من الطوائف من إقصاء أو تحجيم الآخر له، إلا أن المشهد العراقي العنيف طيلة السنوات العشر الماضية ساهم في انخفاض المد المدني العلماني في العراق وساهم بهجرة عديد من الشخصيات السياسية والاجتماعية العلمانية من البلاد لعدم امتلاكهم وسائل الجماعات الدينية العنيفة والمادية ولافتقارهم للغطاء الدولي والإقليمي.. وبعيداً عن الإسلاميين والعلمانيين يستمر المواطن العراقي في طرح سؤاله اليومي متى تستقر البلاد وننعم بحياة طبيعية؟