يؤمن الكاتب بدر الإبراهيم صاحب كتاب «الحراك الشيعي في السعودية» بالتعاون مع محمد الصادق بأنّ لدينا صوراً نمطية تخالف الواقع ويتمّ ترويجها إلى درجة الاستسهال! ويرى بدر في هذا الحوار أنّ علينا واجب البحث عن الصور الواقعية وتقديمها وفق رؤية وتحليلٍ مختلفين عن ما هو سائد، لكي يخرج هذا التحليل من ثنائية الدفاع/الهجوم التي طبعت غالب التحليلات والرؤى المطروحة حول كثير من مشكلاتنا الداخلية وقضايانا المصيرية. فإلى نصّ الحوار مع الكاتب بدر الإبراهيم: - الحالة الشيعية في السعودية متنوعة، وهذا التنوع يشمل الأفكار والرؤى والاتجاهات السياسية، كما يشمل الاجتهادات الفقهية، لكن المشكلة تقديم الحالة الشيعية في السعودية بوصفها حالة جامدة خالية من التنوع، وتقديم الشيعة ككتلة صماء، وهذه الصورة النمطية التي يتم ترويجها تخالف الواقع، وأعتقد أننا نعاني من استسهال التنميط على حساب البحث عن الصورة الواقعية. لا يمكن أيضاً أن نغفل دور الأزمات الطائفية في التأكيد على هذه الصورة، ففي حالة الاستقطاب السياسي الحاد على أسس طائفية يدور الحديث حول معسكرات طائفية متراصة، ويغيب أي حديث عن تنوعات داخل هذه المعسكرات، ومن يحاول إخراج نفسه من هذا الاستقطاب يُهاجم من طرفي الصراع، وعليه فإنّ الحديث عن أبناء مذهبٍ ما في وقت الأزمة يتخذ طابع التشكيك بأي تنوع أو اختلاف بينهم، وبأنهم جميعاً يشبهون بعضهم في القناعات والمواقف. - هناك وسائل إعلام عربية وأجنبية تهتم بإبراز الشيعة السعوديين باعتبارهم أقلية، ويبدو أنّ هذا الأمر سائد في معظم وسائل الإعلام الأجنبية، والحديث غالباً يتمحور حول وضع هذه الأقلية وعلاقة ذلك بالتعقيدات الإقليمية والصراعات الجارية في المنطقة العربية، وفي العموم تنعكس الأزمات الإقليمية على الواقع المحلي وعلى إبراز الشيعة السعوديين إعلامياً. - كان أحد دوافع كتابة كتاب «الحراك الشيعي في السعودية» هو تقديم رؤية وتحليلٍ مختلفين عن ما هو سائد، وأن يخرج هذا التحليل من ثنائية الدفاع/الهجوم التي طبعت غالب التحليلات والرؤى المطروحة حول المسألة الشيعية في السعودية، فهناك هجومٌ يبنى على أسس طائفية، أو على أساس تصورات تفتقد للموضوعية، وهناك دفاعٌ مبني على الحمية الطائفية، لا تهمه الموضوعية بقدر ما يهمه الدفاع عن «الطائفة» في وجه مهاجميها وضد «التهديد» الذي تتعرض له، ويعتبر كل رؤية نقدية انحيازاً للمعسكر الآخر وهجوماً لابد من صدّه. في أوقات الأزمات والاحتقان وتنامي الحسّ الطائفي، يكون الخروج من هذه الثنائية أصعب، ويغرق فيها عدد كبير ممن يطرحون تحليلاتهم في هذه المسألة، لذلك حرصنا في الكتاب على الخروج من هذه الثنائية قدر الإمكان، وتقديم مقاربة أكثر موضوعية للمسألة الشيعية، وقراءة أسباب المشكلة الطائفية بطريقة مغايرة عن القراءات السائدة. - أعتقد أن البحث ليس فقيراً فقط على مستوى الحالة الشيعية في السعودية، بل إنه فقير في كل الملفات والحالات المختلفة داخل السعودية، فلا نجد أبحاثاً مهمة تتناول القضايا والملفات المهمة المطروحة على الساحة السعودية، وغالب ما نعود إليه في هذا الإطار الباحثون الأجانب الذين يقدمون أبحاثاً في قضايا البلد المختلفة. ربما يعود هذا إلى تحرُّج الباحثين السعوديين من الخوض في غمار بعض القضايا والملفات الشائكة، والإحساس بعدم وجود حرية كافية لطرح هذه الملفات بحثياً بشفافية عالية، أيضاً غياب أدوار فعالة لمراكز أبحاث متخصصة يمكن أن تغذي الجانب البحثي عبر إصدار أبحاث وعقد مؤتمرات كبيرة تقدم فيها أوراق مهمة حول مختلف القضايا، تساهم في حالة الفقر هذه. - باعتقادي أن الثورة الإيرانية أثرت خارج الحالة الشيعية كما أثرت داخلها، فقد كانت الثورة الإيرانية ملهمة لحركات الإسلام السياسي. الثورة الإيرانية شكّلت ركيزة مهمة في إيجاد ما عُرِف لاحقاً بالصحوة الدينية، وشجَّعت كل حركات الإسلام السياسي على البروز، وحتى خصوم الثورة الإيرانية من الإسلاميين السنة تأثروا بالنموذج الذي قدمته، وأرادوا أن يكون لهم نموذج مشابه ولكن على طريقتهم هم. في الحالة الشيعية كانت الثورة الإيرانية انتقالاً بالخطاب الإسلامي الشيعي من الركود والتقليدية إلى العمل الحركي المنظم والدخول في عالم السياسة، وانتعشت حركات الإسلام السياسي الشيعية بفضل هذه الثورة، بعد أن كان الخطاب الديني السائد في الحالة الشيعية معتزلاً العمل السياسي، ولاشك أن هذا الأمر غيّر كثيراً داخل الحالة الشيعية، فقد أصبح الخطاب المسيّس يزاحم الخطاب التقليدي وينافسه على الجمهور الشيعي، وظهر صراعٌ بين التيارات المسيّسة والتقليدية داخل الساحة الشيعية كان له أثره الاجتماعي. تاريخياً لم تمتلك حوزة النجف (وهي المرجعية الدينية الأكبر للشيعة السعوديين) مشروعاً سياسياً، ولا يؤمن فقهاء هذه الحوزة بالانخراط في العمل السياسي، وما حصل بعد الثورة الإيرانية هو اقتحام الفقيه الشيعي المجال السياسي عبر نظرية «ولاية الفقيه» التي كانت أساس دولة الثورة في إيران، وهذا أوجد انقساماً داخل الساحة الشيعية في السعودية تحدثنا عنه في الكتاب بين التيار التقليدي التابع لمدرسة النجف، وبين التيار الإسلامي الحركي الصاعد مع زخم الثورة الإيرانية، الذي يشمل تيار «خط الإمام» المؤمن بنظرية ولاية الفقيه، والتيار الشيرازي. - قبل ظهور الخطاب الشيعي المسيّس كان الخطاب القومي العربي مهيمناً على المستوى الجماهيري. في الواقع بعد عام 1979م وظهور الخطاب الشيعي المسيّس وتراجع المد القومي والحركات اليسارية، ظهرت بقوة الإشكالات الطائفية، لكن هذا لا يعني أنّ المشكلة الطائفية في المملكة لم تبدأ قبل عام 1979م، بل كانت موجودة بفعل ما سميناه «مذهبة السياسة»، وتعميم هوية مذهبية ضيقة وغير جامعة على مجمل المواطنين. السعار الطائفي يتعلق أساساً بتحوّل الجماعات المذهبية إلى جماعات سياسية، والصراع فيما بينها على النفوذ في دول المنطقة، وهذا حصل بعد عام 1979م، ونحن اليوم نعيش سعاراً طائفياً بفعل تسييس الانتماء المذهبي وإقحام المسألة المذهبية في المجال السياسي، وتحوّل أبناء المذاهب إلى رعايا طوائف تتحرك في الفضاء العام كوحدات سياسية تعمل على تحقيق مصالح رعاياها، وهذا يعزز الانقسام في المجتمعات العربية. السبب أن الطائفية حالة عابرة للحدود، وما أن يحصل شيء في بلد عربي في الجوار حتى ينعكس على الوضع في السعودية، ونذكر أن الوضع في العراق بعد الغزو الأمريكي عام 2003م أثر كثيراً على الأوضاع في السعودية، وساهم في تصاعد حدة الخطاب الطائفي، كذلك تساهم الإشكالات في عدد من البلدان العربية حالياً في تعزيز الانقسام الطائفي. - لأن الأفراد باتوا يعبرون في المجال السياسي بالهوية المذهبية، وكان لتسييس المذاهب وتحويلها إلى تكتلات سياسية أثرٌ كبير في إيجاد انقسام اجتماعي حاد في المجتمع السعودي. الطائفية ليست مشكلة دينية، وهي لا تتعلق برأيي بقضايا مثل الموقف من الصحابة وآل البيت والإمامة والعصمة والخمس وزواج المتعة، ولا بخطاب الكراهية المذهبي الذي يبث في القنوات الفضائية، فهذه مسائل تُستخدم في التجييش والتعبئة، واستدعاءُ قضايا تاريخية يحصل لتوظيفها في سياق سياسي. المسألة الطائفية متعلقة بتسييس الانتماء المذهبي، وتحويل الاختلاف المذهبي إلى خلاف سياسي، وما يحصل أنّ خطاب التحريض والكراهية المذهبي يُستخدم في التحشيد والتعبئة ضمن الإطار السياسي. لذلك أعتقد أنّ الحديث عن حوارات دينية لحلّ الأزمة الطائفية مضيعة للوقت وتكريس للأزمة وليس حلاً لها، فأصل المشكلة سياسي. - قضية علاقة الشيعة بمراجعهم الفقهية تمّ تضخيمها، وهي ليست مشكلة في رأيي، نحن نعرف أنّ الدين لا يمكن أن تحدّه حدود جغرافية معينة، وبالتالي فإنّ العودة لمراجع فقهية خارج السعودية هو أمر طبيعي يقوم به السنة والشيعة على السواء، فكما أنّ للشيعة مراجعهم خارج البلاد، فإنّ كثيراً من أبناء السنة يعودون أيضاً لفتاوى علماءٍ من الأزهر وغيره، ولأن هذا لا يمثل مشكلة فإنّ محاولة البحث عن حلول من قبيل إيجاد مرجعية محلية للشيعة السعوديين أمرٌ لا طائل منه، فمن يضمن أن تقنع هذه المرجعية المحلية كلّ أبناء المذهب؟ إلاّ إذا كانت ستُفرض فرضاً عليهم وهذا مستحيل. لست ضد وجود مراجع محلية وتفعيل عمل الحوزات الدينية ونشاطها داخل البلاد، لكن لا أعتبر أنّ وجود مرجع فقهي للفرد الشيعي خارج الحدود مشكلة تتعلق بالوطنية ولابد من البحث لها عن حل، فمن المرفوض أن تفرض «الوطنية» شكلاً محدداً للتدين. أما الحديث عن كون تقليد مرجع فقهي خارج الحدود يستلزم ولاءً سياسياً له بالضرورة فهو غير صحيح، فهناك مراجع كثيرون لا يتدخلون في السياسة، كما أنّ البحث في قضية التقليد الفقهي وربطها بالولاءات السياسية لا يقدم شيئاً، ويغفل أصل المشكلة المتعلقة بالمواطنة والهوية الوطنية الجامعة. - المعيار في التعاطي مع إيران وتركيا وأي قوة خارجية غير عربية وتقييم مواقفها هي مصالح العرب، وعلى أساس مصالحنا بصفتنا عرباً ننظم أوجه الاختلاف والاتفاق مع هذه القوى الخارجية. إذاً عندما نعرّف أنفسنا بصفتنا عرباً في السياسة نستطيع التعامل مع الآخرين وفق مصالحنا بصفتنا عرباً، لكن المشكلة أنه لا توجد قوى تمثل المصالح العربية وتنظم الاختلاف والاتفاق مع إيران وتركيا وغيرهما، فالموجود قوى مستتبعة لمصالح غربية، وبلدانٌ عربية تحولت إلى ملاعب للقوى الإقليمية والدولية، ومن يعرّف نفسه مذهبياً في السياسة ينقاد إلى تبعيةٍ لأدوار إيرانية وتركية في المنطقة عبر البوابة المذهبية، تُغلّب مصالح الطائفة على المصالح العربية. - التشكيك متوقع في حالة استقطابٍ كالتي نعيشها، لكن من يقرأ ما أكتبه يعرف أنّ القضية ليست انحيازاً لمعسكرات بعينها، بل رفضاً للمعسكرات الطائفية كلها، ومحاولةً للخروج من الثنائيات الطائفية التي أرهقت مجتمعاتنا. الانشغال بشرح الأفكار وتوضيحها أفضل من الانشغال بالرد على اتهاماتٍ في النيات.