قرأت مقال الكاتبة / رشا عمران، يوم الأربعاء الماضي – في الشرق – كلمة كلمة، كنت أقرؤه فصا فصا كأنما هو فصوص عقل مكلوم، يكاد يتفتت، لا أقول (فصوص قلب مكلوم) إذ نحن في الحقيقة لا نكاد تبقى لنا قلوب. أي قلوب هذه التي أطبقت عليها ظلمات الجاهليات السياسية بأوضارها وشغبها وغبارها واحتدامها وخداعها ثم يبقى فيها مثقال ذرة من حديث أو كلام – حتى لو كان للاستهلاك أو المناورة – ؟ إننا حين نتحدث عن الخداع السياسي، نتحدث وبشكل مطابق عن الضمير المريض أو المتردد الذي أنهك مرضه أو تردده نزعته الإنسانية، وحين نتحدث عن الخداع السياسي لا نكون أكثر من متحدثين عن كذب الأطفال الذين يبدون في عيون الناس كبارا والأمر لا يعدو كونه تواطئا على قيم متوهمة، وعلى كيانات أخلاقية متوهمة، وعلى انهمامات متوهمة. كل انهمام لا يشتغل على فكرته الأخلاقية، إنما هو (دمية) وإشغال للنفس والضمير المريض أو المتردد بما يخدره لكيلا ينتفض على نفسه. لا يمكن لأحد أن يجد عذرا للنزعة غير الإنسانية إلا حين يكون في مواجهة مع أنانيات الأطفال وجهلهم وضيق أفقهم وانحباس عقلهم الطفل في قيد مصلحتهم أو حاجتهم أو ما تشتهيه أنفسهم أو حتى في مخاوفهم. في مثل هذا الحال نغض الطرف عن فقد المبدأ الإنساني، لسبب واحد هو: أن الطبيعة غالبة وأن هذه نزعة ليست ظالمة، هي لا تعرف للظلم معنى وهي دون منزلة الوعي بالمبدأ، فحكمها حكم المعذور لتعذر المبررات الأخلاقية للمؤاخذة أو اللوم. إنما كيف يمكن أن ننظر إلى تحول الخداع السياسي إلى (قاتل محترف) لإنسانية المراقب حين يرى الواقع يحترق ويندك ويموت حوله أو بعيداً عنه وهو يقدم ويؤخر في انشغاله بالحسابات والموازنات، حسابات المكسب وموازنات الضرر؟ عن العالم حين يفعل هذا يكون شبيها تماما بمن يرقص على مزامير اللهب. هذا هو التعريف الذي يمكن أن نقول به لهذا الجنون، جنون الخداع السياسي. وأنا أعتقد أنه من المتعذر أن نثق في الفكرة الأخلاقية عند كثير من السياسيين وبالتالي عند النظام السياسي العالمي في المجمل، وينبني على ذلك ألا نعول – حتى – على القانون باعتبار القانون في روحه فكرة أخلاقية، غير أنها قابلة للهدم أو التهميش أو النسيان أو التأخير في مواجهة الخوف والمصلحة. أليس من اليسير على المراقب المحايد – على الأقل- أن يتبين أن كل فكرة أخلاقية مزعومة لا تعدو أن تكون (خادما مُسترقا) للمصلحة أو الخوف. هكذا تتعزز نزعة المخادعات والتسويف والتضليل السياسي، وهكذا يمكن ان نلاحظ الخلط المريع بين الدم والكلام، بقدر ما يسيل الدم يسيل الكلام، لكن دم المظلومين أكثر غليانا من برودة الكلام البائس المخادع لجوقة المتفرجين الذين لا يحسنون غير البؤس السياسي. البؤس السياسي هذا هو الذي يغذيه الخوف الجبان من التحول عن المألوف السياسي أو عن توافق الكبار على موازناتهم. أي حديث يمكن أن نتحدثه عن القانون الأخلاقي وهو محكوم بهذه النزعة حتى يوشك أن يكون عبدا لها ؟ أعني نزعة (الظلم الموحش) في التفريق بين الدم والدم، والحق والحق، والقيمة والقيمة. إن دماء البشر متساوية وحقوقهم متساوية وقيمتهم متساوية من حيث هم بشر، غير أن شياطين المكاسب والأضرار هي التي تغذي هذه التفرقة وتوقع السياسيين – بعضهم مع شديد الأسف – في الخلط بين الدم والكلام. وكل قانون أخلاقي، وما من قانون صحيح إلا وهو أخلاقي، كل قانون أخلاقي ينبغي أن يكون حاسما فاعلا مؤثرا محروس السطوة ناجز الفعل شديد المبادرة، وإلا فهو حارس القهر المنافق الذي يغذي القهر والظلم فضلا عن أن يمنع قهرا أو ظلما. وأنا – في الحقيقة- لا أبالغ إذا ظننت أن (الأممالمتحدة) ينبغي أن تكون منظمة أخلاقية، والأخلاق فوق الأغراض، (الأممالمتحدة) لا يمكن أن تكون أخلاقية إلا بوصفها رقيباً أخلاقياً مغذياً وراعياً للفكرة الأخلاقية المطلقة، وما من فكرة أخلاقية مطلقة إلا وهي مناقضة للعنف معادلة ومطابقة للسلم، إنها ينبغي أن تقطع العنف ومقدمات العنف وتغذي السلم ومحدداته ودواعيه، أسرع ما يمكن وأكبر ما يمكن. كيف يمكن أن يفهم المراقب المحايد هذه المسافة الحالكة – مثلا – بين (جنيف1) و(جنيف 2) المقرر انعقاده في 22 يناير 2014؟ أحيانا يكون الوقت قد فات حتى على القانون والأخلاق لكي تفعل شيئا أو تحسم أمرا. إن احتدام الواقع المختلط المتهالك لا يساعد كثيرا ولا قليلا على التئام الشتات الذي يصيب أرواح الناس فضلا عن عقلهم أو عاطفتهم، الواقع هذا يكون أقوى من الكلام والتنظير والأسماء والألقاب والمنظمات العالمية وصور المبادرات. إن كل ذلك يكون وهما – وأنا لست متشائما- لأن الوقت فائت. هذه خطورة اختلاط المقاصد والنيات وأنها لا تكون محايدة ولا نزيهة، وأنا أعني – أول ما أعني – مقاصد ونيات الواقع المختلط المتهالك نفسه، قبل نيات المراقبين من خارجه الذين ينزعون إلى الرغبة في الإصلاح وإعادة الأمور إلى نصابها. مثل هذا الواقع يكون قد تجاوز نقطة الغليان، إنه يتفتت وينتثر ويستعصي، إلا إذا تعاملنا معه بالطريقة التي تلائم قانونه هو، لا قانوننا نحن ولا قانون مبادراتنا و صور مبادراتنا البطيئة النظرية المتجادلة. الآن: ماذا كانت تقول رشا عمران في مقالها؟ كانت تقول إن العالم قد حول الشعب السوري إلى أناس من ورق وهو صحيح لأننا نتعامل مع الواقع السوري اللاهب بطريقة غير مناسبة، وأنا لا أتحدث عن النيات، فالعالم – الآن – غير زاهد في أن يجد حلا، إنما الذي أفهمه أن الواقع السوري الآن له قانونه المتشظي. إذا تشظى أي واقع فلا يتحدث أحد عن المقاييس التي يقيسها به. هذا يشبه ذهاب الريح، الاختلاف يساوي الفشل وانعدام القانون الأخلاقي وتهدم السنن الواضحة التي يمكن اتباعها وبالتالي ذهاب الريح. وعقل العالم اليوم مطالب بفهم قانون الواقع المتشظي هذا والعمل على الملائمات وإحلال الوفاق مكان الشقاق والثقة مكان الشك والمقاربة مكان التشديد، فبأي أداء سياسي وأخلاقي يمكن أن يحدث هذا؟ هل يمكن أن يفهم العالم أنه بحاجة إلى تبريد مثل هذا الواقع اللاهب الحارق ؟ لا بمعنى التسويف والتباطؤ ولكن بمعنى (المقاربات)، المقاربات السياسية هي التي يمكن أن تبرد الواقع العنيف، والواقع العنيف المتداعي هذا له عقله الخاص وقانونه الخاص، عقله ممزق في العقول وقانونه ممزق في القوانين، عقله بعدد عقول المتنازعين وقانونه بعدد طرائق فهمهم وتفكيرهم، وليس هناك – في الواقع – مرجع معرفي متماسك لمثل هذا الواقع لأنه قد تشظى، ولذلك فإنه لا تمكن معالجته إلا بتحييد المتنازعين جميعهم، وأن يُحملوا على الإيمان بضرورة وحتمية التنازلات – بميثاق أخلاقي صادق – على أن هذه التنازلات قد تصادم عقولهم وقوانينهم. نحن بحاجة اليوم إلى قوة أخلاقية تتذكر أن الشعب السوري شعب محايد مغبون، قد حولته النزاعات الغاشمة والموازنات المتوهمة إلى مادة لتصفية الحسابات واستبداد المطامع الإقليمية. لا يكاد يصدق أحدنا أن ضمير العالم قد تحول إلى رهينة لخوف بعضنا من بعضنا، الخوف هذا غالبا وهم يغذيه موت الثقة. النظام السياسي العالمي في المجمل لا يستمد قانونه إلا من عقول المتنازعين أنفسهم، فإذا جنحت إلى ما سميته المقاربات السياسية فإنه سيجنح لها- غالبا – فعلى المتنازعين أن يعلموا أن الكيانات أكبر من الأشخاص، وأن التنازع لا يصنع شيئا لا في الواقع ولا في الأخلاق، وقد آمن الأخلاقيون أن أكثر التنازع آفة في العقل يهيج دواعيها في الواقع، وكل عقل منازع ينبغي أن يُحيد بأي طريقة، لكيلا يبقى تشظي الواقع سرمديا، فماذا تفعل الدنيا كلها في مواجهة هذا؟