في كتابه «التنوير والثورة – دمقرطة الحداثة أم أخونة المجتمع» الصادر عن دار التنوير 2013، يسعى المفكر والباحث الدكتور محمد الحداد رئيس المرصد العربي للأديان والحريات، إلى وضع حالة المجتمع العربي ما بعد ربيع ثوراته ضمن الإطار العام للإصلاح الذي بدأ منذ عصر النهضة في القرن التاسع عشر. وضمن ما سببه تعثر مشاريع هذا الإصلاح، والنتائج الكارثية التي انتهت به إلى سخط عام سرى في عروق وأوصال عموم الجماهير العربية التي انتفضت وثارت. وهو إذ يواكب هذا الوضع، ويراقب عن كثب تطورات مجرى الثورات ومجرى تداعياتها، فإنه ينطلق من قناعات يرتكز عليها في تحليله، أبرزها أن هذه الثورات حقيقية وليست بفعل استخباراتي أو بفعل مؤامرات دولية تحاك من هنا أو هناك، حيث حدثت نتيجة أخطاء أدت إلى تهافت المشاريع الإصلاحية، وقد أشار إلى سببين رئيسين هما: الاستبداد السياسي وغياب الحريات الدينية (حتى لا نقول الاستبداد الديني). فتمسك الحكام بكراسي السلطة وتشبثهم بها حتى مماتهم، أفشل كل مشروع سياسي للإصلاح والتحديث، واحتكار رجال الدين السلطة الدينية والاستقواء بها لقمع حرية الفرد في معتقده وقمع قناعاته، عزلت عموم المجتمع عن التطلعات إلى التحديث، وجعلت تفكيره وميوله ينسجم مع الجماعة، وليس بوصفه ذلك الفرد المستقل في تأثيره عن الجماعة. وهو إذ يربط هذين السببين بالمؤدى الذي جاء بالربيع العربي، لا يغفل على الإطلاق الجديد الذي طرحته هذه الثورات، حين يشدد على عفوية الزخم الجماهيري والروح التي برزت في الشارع العربي، مما أسقط كثيرا من الأطروحات والأفكار الغربية التي ألصقت مسألة الاستبداد كماركة مسجلة في تاريخ العرب والمسلمين، ولن يخرجوا منه على الإطلاق. هذا الزخم يراهن عليه الكاتب، ويجعل من إظهاره أو إبرازه وتحليله أو تشجيعه من أهم وظائف المثقفين في الوقت الراهن. والرهان يقع كله – كما يرى- على مسألة التنوير والأفكار الحديثة المرتبطة به، ولن يتحقق ذلك، إلا إذا انتقلت مثل هذه الأفكار (التي هي في مجملها تسعى إلى تحقيق الحرية والعدالة والديمقراطية) من وضعها عند النخبة المثقفة إلى وضعها عند عامة الناس، وانتشرت كما انتشرت إبان القرن الثامن عشر في أوروبا. بالطبع هو لا يغفل أيضا أهمية المجادلة في التراث، خصوصا في فكرة العدالة عند الفلاسفة المسلمين القدامى. والاستفادة منها في إنارة قضايا الحاضر وأزماته، فهو على سبيل المثال يشدد على أننا «ينبغي أن نحتفظ من التراث الأخلاقي العربي، ومن الفارابي تحديدا بفكرتين أساسيتين هما أن العقل قادر على الحكم على الأفعال، وأن الإنسان كائن أخلاقي لأنه قادر على اختيار أفعاله»، وما عدا ذلك هناك مدونات امتلأت بها بطون أمهات التراث لم تتحدث عن العدالة إلا من خلال روح المدينة الفاضلة، أي بمثالية وطوباوية لا تمت إلى الواقع ومآزق الحاضر بصلة وثيقة. ورغم كل ما قيل عن الفوضى التي أنتجتها مثل هذه الثورات، وما ترتب عليها من صعود للتيارات المتطرفة والمتشددة إسلاميا، وانتشارها بقوة تأثيرها على الساحتين السياسية والدينية، وأيضا كذلك تصاعد لاعبين آخرين كزعماء القبائل والمشائخ والطوائف، أي كل ما من أجله أن يكرس النظام القبلي القديم، ويعيد للواجهة كل الصراعات الطائفية والدينية والعشائرية التي ترسخت في تاريخنا القريب والبعيد. رغم كل هذه الفوضى. غير أن الكاتب يشدد على أننا ينبغي أن نعلي من الجوانب الإيجابية التي يمكن أن تحققها مثل هذه الثورات، فلأول مرة ينتفض الشارع العربي ويعبر تعبيرا مباشرا عن غضبه وسخطه، بعيدا عن كل تنظير ثوري أو إيديولوجي يرتبط بهذه النخبة المثقفة أو تلك. وهذا له مغزى كبير، رأينا سرعة تأثيره، وعدواه التي انتقلت إلى مدريد ولندن وموسكو ونيويورك، والمظاهرات التي جرت في «وال ستريت». هذا المغزى ليس له سوى دلالة واحدة، وهي أن ثمة عاملا مشتركا يجمع الإنسان في كل هذه المدن في الشرق أو في الغرب، هذا العامل هو الرفض القاطع لكل مظاهر العولمة المتوحشة التي لا ترحم. لذلك فإن تنمية الجانب الإيجابي منها ضرورة لا ينبغي التهاون فيها، رغم أنه لا يستبعد الاحتمال الأسوأ الذي يمكن أن يصل إليه مؤشر الأحداث في العالم العربي، الاحتمال الذي تنتكس فيه الأمور كما نرى الآن، بحيث يحتمي فيه الفرد إما بطائفته أو بقبيلته أو بقوميته، وتتراجع فكرة بناء الدولة الحديثة، ويستعاض بها بفكرة شيخ القبيلة أو زعيم الطائفة. أليس مثل هذا المؤشر متحقق نوعا ما؟ قد يكون ذلك، ما لا يمكن تجاهله أن الثورات التي عبرت التاريخ، لم تهدأ أو تستقر إلا بعد عقود وعقود من الزمن، وأقرب مثال هي الثورة الفرنسية، رغم التباين والاختلاف. إن ما قدمته أعلاه من أفكار الكاتب محمد الحداد كانت مجرد شذرات، والكتاب مليء بالأفكار الجديرة بالمجادلة والحوار، والمغتنية بالتحاليل العميقة والثراء المعرفي. ولو حاولنا أن نصطاد الفكرة المركزية التي يهجس بها الكتاب وينشغل بها من العمق سنرى أنها فكرة الديمقراطية. وهو في تصوري محق في هذا الهاجس بالتركيز عليه، وأذهب معه إلى أن المخرج الحقيقي لكل هذه الأزمات التي لا تتفكك أو تنحل تدريجيا، هو بتبني الديمقراطية فكرا وممارسة وتقنية. سوى ذلك فنحن نراوغ وندور في الفراغ. لكن الصعوبات بالتأكيد ليست سهلة، والعقبات ستكون أشد وقعا وإيلاما. ولن تقاس تجربة دخول المجتمعات العربية إلى فضاء الديمقراطية – سواء بعد عقد أو عقدين أو حتى بعد خمسين سنة – البتة بتجارب الشعوب والأمم الأوروبية أو الأمريكية، فقد عرفت تلك الشعوب تدرجا بطيئا في التحول إلى الديمقراطية، حتى أن الثورات الأخيرة في شرق أوروبا لم تصنع نماذجها الديمقراطية من العدم، ولم تكن في حاجة إلى ذلك، في ظل الغنى الأوروبي وثرائه في التجربة والممارسة تاريخيا. بينما يصعب القول بالمقابل إن هناك نماذج جاهزة في الديمقراطية يمكن تطبيقها على المجتمعات العربية. ناهيك عن أن التاريخ الإسلامي لم يعرف مطلقا مثل هذا الأنموذج كي يتم استحضاره وتعديله حسب طبيعة المجتمع وراهنيته للحظة المعاصرة. بالطبع المجتمعات العربية الآن بلا بوصلة ديمقراطية. لكن لا مخرج سواه، والبداية تكمن في ترسيخ مبدأ الحوار، ويمكن الاستفادة من الغرب في هذا المجال. لقد ذهب الغرب بعيدا في ترسيخ فكرة الحرية كقيمة عليا في ضمير ثقافته وفكره حتى أثرت بصورة أو بأخرى على فكرة العدل، وهذه الأخيرة كنظام وقوانين جرى تطبيقها عن طريق مؤسسات الدولة والمؤسسات الدولية المتخصصة. لكنها تحولت إلى ظلم وقهر في إطار نظام عالمي معولم، وعلى أقل تقدير لم تستطع تحقيق العدالة المطلوبة. هذه الثغرة تنبه لها كثير من المفكرين الغربيين، حيث أعادوا التفكير في مآلات فكرة العدالة مرة أخرى، وأكد أغلبهم على أن الحوار هو المخرج في إعادة التصورات عن كل القيم المطروحة، ومن ضمنها هذه الفكرة. لذلك أقول لا ديمقراطية دون حوار يذهب إلى العمق، ويكسر التابوهات التي تربينا عليها جميعا.