إذا كان القرن التاسع عشر هو قرن العقل واليقين، والقرن العشرين هو قرن الشك والاحتمال، فالقرن الحادي والعشرين هو قرن المعرفة، وتشكل المجتمع المعرفي. هناك وجهات نظر عدة في تحديد معنى المجتمع المعرفي، وحتى الآن ليس هناك تعريف نهائي أو سائد متفق عليه بين الباحثين والمهتمين، إلا أنها جميعاً تتفق على أن المجتمع المعرفي يعتمد على مقدار معرفة وتعلم موارده البشرية وتمكنها من بناء مهاراتها وقدراتها واستخدامها الإبداعي في جميع مجالات وحقول النشاط المجتمعي، أي في تحقيق التنمية الإنسانية الشاملة. وهذا يفرض علينا كمجتمع يبحث عن تنمية وتطوير نفسه مواجهة ومعالجة التحديات النابعة من مصدرين، الأول من واقعنا الحالي الذي لم يستطع بلوغ نهضة القرن المنصرم بكامل منجزاتها العلمية والسياسية والمعاشية، والآخر النابع من التراكم المعرفي في جميع الحقول العلمية والتكنولوجية والمتزايدة بمتوالية هندسية وتتضاعف في فترات زمنية قصيرة لم يسبق للحضارة الإنسانية أن عاشتها من قبل. هذه الوضعية، ليست خاصة بمجتمعنا المحلي، بل تعاني منها، مع الأسف، جميع المجتمعات العربية وكثير من البلدان النامية، ولو بمستويات متباينة. ومن الأدوات الشائعة في البحث عن السبل الكفيلة لمواجهة هذه التحديات والتغلب عليها، وعدم البقاء على هامش المجتمع الدولي، عقد المؤتمرات وورش العمل المحلية والدولية التي يشارك فيها المتخصصون والمهتمون بإيجاد وتشكيل مجتمع معرفي. وقد عقد في العاشر من هذا الشهر في مدينة الظهران وتحت رعاية من شركة أرامكو «المنتدى العالمي لمجتمع المعرفة»، حيث شارك فيه عدد من المسؤولين الحكوميين وأكاديميين محليين وأجانب، تحدثوا فيه عن مفاهيمهم للمجتمع المعرفي وآليات الوصول إليه. إلا أنه إلى الآن لم تتوفر لغير المشاركين في المنتدى النصوص الكاملة لهذه المحاضرات والمداخلات، التي يعد توفرها وغيرها من الأبحاث والدراسات المتنوعة وإتاحتها للجميع دون قيود رقابية خاصية من خصائص المجتمع المعرفي. فالوصول إلى المعلومة مهما كانت طبيعتها وحجمها شرط رئيسي في انتشار المعرفة بين جميع أعضاء المجتمع دون تحديد أو تمييز، الذين بدورهم يجب أن يكون لهم الحق في الاشتراك في مراجعة الماضي وتقييم الحاضر وإبداء رأيهم بحرية كاملة في ذلك، وهذا لا يتم أيضاً دون توفر درجة عالية من الثقافة المعلوماتية بين عناصر المجتمع. إن مصداقية المعلومة ودقتها وحداثتها لها وزنها وفعاليتها في توليد المعرفة ونشرها واستخدامها، وفي الوصول إلى التقييم الصائب واتخاذ القرار المناسب والرشيد، وهو ما يجعل المجتمع المعرفي مجتمعاً لا يقبل تزييف المعلومة، ولا يتجاهل الخطأ والاستمرار فيه دون مراجعة. كما أنه في الوقت نفسه مجتمع دينامي سريع الخطى لا يحتمل بقاء المعلومة أسيرة أدراج البيروقراطية، أو تعديلها وفقاً لأهواء صاحب القرار، أو انتظار تقييم البيروقراطي غير المتخصص وغير المتابع للمستجد في هذا الحقل أو ذاك من حقول المعرفة. ومن هنا تأتي المراجعة الموضوعية لخططنا الخمسية السابقة وما تحقق منها من إنجازات ذات صلة بانتشار المعرفة، كمسألة ضرورية في إعداد الاستراتيجية الوطنية للتحول المعرفي، التي تشرف على إعدادها حالياً وزارة الاقتصاد والتخطيط. وهو ما أشار إليه رئيس شركة أرامكو السيد خالد الفالح في كلمته في المنتدى حينما قال «الخطط الخمسية السابقة لم تخضع للمراجعة ويجب تلافيها». ومثل هذه المراجعة لا تتحقق باجتهادات فردية فقط «مع ما للعلماء من مكانة كبيرة في هذا الشأن»، وإنما أيضاً من خلال مراكز الدراسات والأبحاث ومنظمات المجتمع المدني المستقلة الملتزمة بالموضوعية وبالمنهج العلمي في تحاليلها وتقويمها التي يديرها ويعمل فيها متخصصون ذوو قدرة ومهارة واعية على تنفيذ هذه المراجعة، والكشف عن مواطن الخلل والعيب فيها. فكيف نحقق ذلك ونخطو نحو مجتمع معرفي وما زلنا نفتقد القانون الذي يبيح لنا تأسيس هذه المراكز البحثية غير الحكومية، ويمنح المواطن الحرية في تكوين منظمات المجتمع المدني، التي تقع ضمن الحريات الأساسية التي كفلتها الوثائق الحقوقية الدولية. تقتضي الجدية في السير نحو خلق مجتمع معرفي عدم إغفال أي ركن من الأركان الأربعة التي عليها يشيد هذا المجتمع: 1. ضمان الحريات الأساسية. 2. نشر التعليم ذي الجودة العالية للجميع، مع توفر المقومات العصرية والبنية التحتية اللازمة لذلك. 3. إدماج التعليم في النشاط الاقتصادي والثقافي. 4. التحول إلى نظام إنتاج قائم على المعرفة. وهو ما أكد عليه المنسق المقيم لنشاطات الأممالمتحدة في السعودية السيد باولو ليمبو، ومدير شعبة مجتمعات المعرفة في اليونيسكو الدكتور اندراجيت بايزجي في كلمتيهما بالمنتدى. بينما خلت كلمات المتحدثين المحليين من التأكيد على أهمية حرية التعبير والتنوع اللغوي والثقافي كأركان لا غنى عنها لقيام مجتمع معرفي. إن توفر حرية الحصول على المعلومة من حول العالم وتداولها، وجعل التعليم عملية مستمرة ودائمة تسمح بحق الاختيار وحرية الاختلاف والانطلاق دون قيود من ماض غير معرفي، وتوفير مناخ سياسي يرتكز على الديمقراطية والعدالة والمساواة، ويشرك كافة عناصر المجتمع في عملية اتخاذ القرار والمشاركة السياسية الفاعلة، سيمنحنا القوة للتغلب على تحديات بناء المجتمع المعرفي الذي دون التحول إليه سنكون قوماً من الغابرين.