أثار موت زعيم جنوب إفريقيا المناضل المعروف نيلسون مانديلا موجة عارمة من المدائح وديباجات الرثاء والحزن لفقده وإعادة مقولاته حول النضال ضد العنصرية وضد الاستبداد والطغيان، واسترجاع أقواله عن التسامح والتطلع لبناء المستقبل المشترك وتعميق جذور المحبة والتعاون بدلا من الكراهية والتنافر، ونبذ التطرف والتمييز في العرق واللون والجنس والدين وخلق البديل الديموقراطي الحقيقي والعادل ليسود العالم بدلاً من النظم الرأسمالية أو الاستبدادية الحاكمة لاسيما في دول العالم الثالث، ما مثله نيلسون مانديلا في حياته النضالية الطويلة وفي سجنه وفي تخليه عن السلطة لصالح الديموقراطية وفي حياته الشخصية جعل كثيرين يعتبرونه أحد المناضلين الأمثلة في العالم، ورغم أن مانديلا لم يرفض فكرة الصراع المسلح مع نظام الابارتهيد العنصري في جنوب إفريقيا بل اعتبرها حقا مشروعا وكان هو أول من دعا لتأسيس الجناح العسكري للمؤتمر الوطني الإفريقي ولكنه لاحقا كان أعلن تخليه عن السلاح فور خروجه من معتقله الطويل بادئا عمله السياسي بإعلاء سيادة القانون، الضامن الوحيد لوقف النزف والاستنزاف الذي كان حاصلا في جنوب إفريقيا بين البيض والسود وبين السود أنفسهم، معتدلين ومتطرفين، ولعل في مشهد عرضته الفضائيات وتناقلت صورته عديد من وسائل الإعلام يظهر امرأة عجوزا سوداء تعانق شابا أبيض والاثنان يبكيان لحظة إعلان خبر وفاة مانديلا بما يثبت أن ما يسعى إليه المناضلون حين يكون حقيقيا ومسلحا بالإيمان الكامل بالقضية سوف يتحقق مهما طال أمد النضال ومهما بلغ حجم التضحيات، هذا المشهد كان أحد أحلام مانديلا طيلة حياته وتحقق عبر سنوات طويلة من النضال والكفاح السلمي والعسكري ومن الحروب الأهلية المستنزفة ومن دعم عالمي لنظام الابارتهيد العنصري بما فيه الدعم الإسرائيلي العلني، وبما فيه أيضا من انكسارات وانهزامات عديدة كان أشدها فداحة هو سحق التمرد المسلح الذي كان مانديلا أحد قادته في أواخر ستينات القرن الماضي والحكم عليه بالسجن مدى الحياة لاتهامه بالتخطيط للقيام بأعمال مسلحة وتخريب منشآت عامة وهي تهم لم ينكرها أصلا واستمرار الوضع في جنوب إفريقيا على ما هو عليه من عنف ازداد مع تقدم الأجيال التي لجأت إلى المخيمات وقت سحق التمرد بالعمر وتمرسها بالعنف الذي تفرضه الظروف الاجتماعية المشابهة وعودتها إلى جنوب إفريقيا لتبدأ الأزمة الحقيقية وقتها، حروب وصراعات مسلحة وهروب للبيض بأعداد كبيرة حتى نهاية الأزمة في أواخر الثمانينات واستلام مانديلا الحكم وسيطرة القانون لتحقيق عدالة انتقالية تضمن الانتقال إلى نظام ديموقراطي سليم ومستقر وشبه أبدي. تاريخ نيلسون مانديلا المعلن ونضاله كله بات معروفا للجميع وهذا ما جعل من وفاته مناسبة لتناقل أقواله وخطاباته ورسائله إلى أحرار العالم، ولكن المفارقة هي في كثير من النماذج التي نعته ووضعت صورته كبروفايل شخصي على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي وتناقلت كلماته على مدى أسبوع بكامله، قسم من هؤلاء مؤيدون علنا للطغاة ويدعون لاستخدام أقسى أنواع العنف الذي استخدمه نظام الابارتهيد العنصري ضد المنتفضين على أنظمتهم، هؤلاء لا مانع لديهم من تهجير الملايين ولا من قتل الأطفال ولا من موت الآلاف تحت التعذيب، وحجتهم أن هؤلاء استخدموا السلاح والعنف في انتفاضتهم ردا على عنف الأنظمة المحقة في ردة فعلها حسب رأيهم، هؤلاء ينظرون إلى المنتفضين والثائرين بصفتهم رعاعا ومن مستوى اجتماعي متدنٍ ويتحدثون عنهم بخطاب مملوء بالكراهية والعنصرية والشوفينية لا يتناسب إطلاقا مع خطاب مانديلا الذي عانى طويلا من العنصرية والشوفينية والكراهية والتمييز! القسم الثاني ممن نعوا مانديلا وتناقلوا كلماته هم بعض من الشعوب الثائرة ضد أنظمتها ولكنهم اعتمدوا خطابا مشابها لخطاب الأنظمة في الكراهية والعنف المضاد والتوعد بمستقبل قاتم لمن وقف ضد الثورات يتضمن التهجير أو القتل العشوائي أو الإبادة الكاملة، ويرفضون الحلول السياسية المستقبلية والتفاوض الذي قد يوقف الدم كما فعل مانديلا، ويصرون على أن شركاء الوطن مستقبلا هم الأموات فقط أما الأحياء فلا مكان لهم في هذه الأوطان، هؤلاء تبنوا خطاب مانديلا المتسامح والسياسي والمطالب بالعدالة والتعددية بينما هم أصلا يرفضون حتى التفكير بقيم كهذه، قسم آخر أيضا ممن تبنِّي خطاب مانديلا هم من الذين يعتبرون السود مجرد عبيد بسبب اللون وقد يختارون منهم خدما نتيجة تردي الوضع المعيشي في عديد من دول إفريقيا، أو الذين يتغاضون عن المجاعات الإفريقية التي تفتك بملايين الأطفال سنويا بنظرة فوقية استعلائية عرقية ترى في العرق الأسود عالما آخر أدنى بالمستوى الاجتماعي والإنساني. هؤلاء جميعا يحاولون عبر تبني أقوال مناضل كنيلسون مانديلا تبييض لا وعيهم المريض بأمراض اجتماعية عديدة وإظهاره بما ليس فيه، لكن كل ما فعلوه أنهم كشفوا فصامهم وازدواجيتهم وتناقضهم المريع بين القول والفعل، ولعل من المفيد القول إن الغالبية العظمى من هؤلاء هم من العرب!!