تقوم الآراء التي عبر عنها الزميل الأستاذ إبراهيم طالع في مقاله عن اللغة العربية (الذي أشرت إلى حلقاته الثلاث في مقال الأسبوع الماضي) على عدد من المسلّمات التي شاعت منذ القديم عن الوضع اللغوي العربي في الجاهلية وصدر الإسلام، وعن القضايا المرتبطة بذلك الوضع، ومن أهمها نشأة النحو العربي، والصلة بين اللغة الفصحى واللهجات العربية. ومحصلة تلك المسلّمات أن العرب منذ الجاهلية حتى أواسط القرن الهجري الثاني، في الحواضر، وحتى القرن الرابع الهجري في البوادي، كانوا يتكلمون اللغة العربية كما تتمثل في القرآن الكريم والشعر. وما ترتب على تلك المسلّمات أن ذلك الوضع أخذ في التغير بعد خروج العرب من جزيرتهم مع جيوش الفتح بسبب اختلاطهم بسكان المناطق المفتوحة، الذين «أفسدوا» نظام اللغة العربية. إذ لما عجز أولئك «الأعاجم» عن أدائها بالصورة التي يؤديها العرب «الأقحاح» الفاتحون اضطروا للتخلص من بعض خصائصها الصعبة، وكان أظهر تلك الخصائص الإعرابَ الذي أسقطوه من أواخر الكلمات. وقد أصاب ذلك التغيُّر، كما تصور تلك المسلّمات، العربَ بالانزعاج والذهول، ودعا بعضَ الغيورين منهم إلى وضع النواة الأولى ل«النحو» ل«صيانة» لغتهم من عبث «الأعاجم». ولست بحاجة هنا إلى التذكير بالقصص العجائبية التي تحكي انزعاج أولئك الحريصين على العربية من الأخطاء التي لاحظوها في أداء «الإعراب» التي لم يسلم منها أبناؤهم وخلفاؤهم! وكان أحد الأهداف الكبرى لوضع النحو، كما تقول تلك المسلّمات، صيانة القرآن الكريم من أن تؤدي أخطاء «الأعاجم» في قراءته إلى عدم فهمه في نهاية الأمر. لذلك رغب العرب في تعليم «الأعاجم»، الذين اعتنق كثير منهم الإسلام، اللغة العربية بشكلها الصحيح، لكي يقرأوه بلغة صحيحة ويفهموه ويتعبدوا به. وتعني هذه المسلّمات التقليدية أن العرب جميعاً، وكان كثير منهم أميين، كانوا واعين بدقائق خصائص لغتهم، وأظهرها الإعراب. وأنهم كانوا قادرين، جميعاً، على أن يكتشفوا مباشرة، وببساطة، حالات الخروج عليه. ومن المفارقات أنه مع رسوخ المسلّمات التي تتهم «الأعاجم» ب«إفساد» اللغة العربية بعد الفتح إلا أن المصادر العربية نفسها تورد أحاديث وآثاراً عن وجود بعض مظاهر «الفساد» نفسها في أداء اللغة العربية قبل خروج العرب في جيوش الفتح! ومن ذلك الحديث الذي أورده الأستاذ إبراهيم طالع من قول النبي -صلى الله عليه وسلم-، حين أخطأ شخص في اللغة بحضرته: «أرشدوا أخاكم فقد ضل» (وهو حديث موضوع)، والقولُ المنسوب لأبي بكر -رضي الله عنه- عن اللحن الذي أورده الأستاذ طالع كذلك بالإضافة إلى أحاديث وآثار أخرى كثيرة مماثلة (مختلقة). وظلت تلك المسلّمات تمثل التفسير المعهود للوضع اللغوي العربي لقرون، ولا تزال تدرَّس في أقسام اللغة العربية إلى الآن على أنها تمثل حقيقة ذلك الوضع. وربما يُلتمس العذر للقدماء الذين استمروا في تكرار تلك المسلّمات طويلاً وقبلوها لأسباب عدة، أولها أن مصطلح «اللغة» نفسَه، لا يعني، إذا أُطلق في المصادر العربية، إلا اللغة العربية. ولم يهتم القدماء بغيرها من اللغات. وكان هذا هو المعهود في الثقافات كلها، حتى القرن الثامن عشر الميلادي. إذ لم يحدث أن اعتنت أية أمة بلغة غير لغتها هي. لكن هذا الإعذار لا ينطبق على العرب المعاصرين؛ ذلك أن المنتظر منهم ألا يستمروا في القبول بتلك المسلّمات لانتفاء أسباب إعذار الأقدمين، ويلزمهم البحث عن تفسيرات أكثر وجاهة للوضع اللغوي العربي في الجاهلية والقرون الأولى من تاريخ الإسلام. ومن الواضح أن تلك المسلّمات وما يلزم عنها من فرضيات أخرى لا يمكن أن تكون التفسير الصحيح للوضع اللغوي في الجاهلية وصدر الإسلام، وهو وضع يمكن تفسيره تفسيراً مغايراً مقبولاً في إطار المعرفة اللسانية الحديثة. وأول ما يوجبه تفسير ذلك الوضع تفسيراً مقبولاً أن ننظر في تواريخ اللغات الأخرى. وقد صار من مسلّمات البحث اللساني الآن أن مبدأ «كُلِّيَّة» اللغة الإنسانية الذي يشير إليه تشومسكي، يشهد بأن اللغات كلها (التي يفوق عددها ستة آلاف لغة) ليست إلا أمثلة لشيء واحد يتماثل فيه البشر. ويتجاوز هذا التماثلُ الأنظمةَ اللغوية ليشمل مواقف الناس من لغاتهم. فمن الواضح أنهم يتماثلون في مواقفهم منها، ومن ذلك أنهم يتماثلون في حكاية تواريخها كذلك. ومحصلة ذلك أن مقارنة المسلّمات التقليدية في المصادر العربية عن العربية بالمسلّمات التقليدية عن تواريخ اللغات جميعاً تؤكد أن المسلّمات في المصادر العربية ليس لها من المعقولية إلا ما للمسلّمات الموجودة في اللغات الأخرى. فإدانة الأجانب ب«إفساد» اللغة، مثلاً، أمر مألوف في تواريخ اللغات كلها. ومن ذلك ما أشرت إليه في المقال السابق من تسمية الرومان لسكان المناطق التي احتلوها بالبرابرة لأنهم لا يتكلمون اللغة اللاتينية ولا يجيدون استخدامها إذا تعلموها، ويشوهونها بما يرتكبونه من الأخطاء فيها، وما يقوله بعض غير المتخصصين عن إفساد الأجانب للغة الإنجليزية، وانزعاج بعض العرب الآن من الأخطار التي يرون أنها تهدد اللغة العربية بسبب الخادمات والسائقين الأجانب، مثلاً! وشعور الناس بأن لغتهم تفسد بمرور الزمن ظاهرة معروفة كذلك. فهم يرون دائماً أن لغتهم كانت في الفترات الماضية أفضل وأكثر اطراداً ونقاءً. ومن أمثلة ذلك أنه لما قُعِّدت اللغة الإنجليزية في القرن الثامن عشر خلص الذين كانوا يشتغلون بتقعيدها إلى أنه لا يمكن الوثوق في صحة لغة معاصريهم من الشعراء. لذلك قرروا أن يستشهدوا على ما وضعوه من قواعد بشعراء عاشوا قبل خمسين سنة من تلك الفترة اعتقاداً بأن لغتهم كانت أفضل. وبعد خمسين سنة من ذلك التقعيد أراد بعض المهتمين إجراء إصلاحات على النحو الذي قُعد سابقاً. ولما أرادوا الاحتجاج للقواعد التي وضعوها اكتشفوا أن معاصريهم من الشعراء لا يمكن الثقة في لغتهم! لذلك قرروا أن يستشهدوا بشعراء عاشوا في فترة أقدم. ولم يكن الشعراء «القدماء» الذين ارتضى هؤلاء الاستشهاد بهم وحكموا بصحة لغتهم إلا أولئك الشعراء الذين حُكِم على لغتهم قبل خمسين عاماً بأنها ليست موثوقة! وما يشير إلى عدم معقولية المسلّمات القديمة عن اللغة العربية أنه حتى لو سلمنا بمسؤولية «الأعاجم» عن «إفساد» العربية المتمثل في اختفاء الإعراب خارج الجزيرة العربية، فلا بد من تفسير اختفائه من كلام سكان الجزيرة العربية نفسها. وتفرض هذه الحقيقة التاريخية أنه لا يوجد إلا طريقان لتفسير اختفاء الإعراب من لهجات الجزيرة العربية كلها، جنوبها وشمالها: فإما أن الإعراب لم يكن موجوداً في كلام العرب اليومي في الجاهلية وصدر الإسلام بالصورة التي تروى لنا، أو أنهم استوردوا اللغة التي أفسدها الأعاجم إلى ديارهم! وسأناقش هذه القضية في مقال تالٍ.