«اتفاقية تاريخية» بهذه الكلمات وصفت الاتفاقية التي وقعتها إيران مع الدول ال5+1 فجر الأحد 24 نوفمبر، بعد أربعين يوماً فقط من بدء هذه المحادثات في مدينة جنيف السويسرية. محادثات بدت عسيرة ظاهرياً، غلفت اتفاقاً مبدئياً أمريكياً – إيرانياً عكره دور فرنسي حاد، لم يرتكز على موقف من النووي الإيراني وفرعه العسكري المحسوم أصلاً قبل المفاوضات، بل جاء انطلاقاً من غضب فرنسي يعود إلى التعاطي معها باستخفاف من قبل روسياوالولاياتالمتحدة في ملفات دولية أخرى، آخرها حل الملف الكيماوي السوري الذي استبعدت فرنسا منه نهائياً، بعد أن أظهرت حماساً منقطع النظير للذهاب نحو الحرب، وعندما حان وقت الاتفاق، لم يتم استشارتها لا من روسيا ولا من قبل حليفتها الأمريكية. خلف اتفاقية جنيف، التي ظهرت للعلن ووقعت في وقت قياسي، حُجبت سلسلة من المحادثات السرية دارت في الأشهر الأخيرة بين الولاياتالمتحدةالأمريكيةوإيران، أخفتها واشنطن حتى عن أقرب حلفائها إسرائيل، فقد كشفت وكالة «أسوشيتد برس» لللأنباء في تقرير مفصل ومطول عن تاريخ العلاقات الإيرانيةالأمريكية السرية، نشر عشية توقيع الاتفاقية، أن خمسة لقاءات سرية أمريكية إيرانية على الأقل عقدت في عُمان وأماكن أخرى منذ شهر مارس الماضي بموافقة الرئيس الأمريكي باراك أوباما، حضرها عن الجانب الأمريكي نائب وزير الخارجية وليام بيرنز، وكبير مستشاري السياسة الخارجية جيك سوليفان، ونائب الرئيس جو بايدن، قابلهم عدد من المسؤولين الإيرانيين لم يكشف عن أسمائهم. وأضافت الوكالة أن أربعة لقاءات مماثلة عقدت منذ انتخاب الرئيس الإيراني حسن روحاني في آب الماضي مهدت الطريق للاتفاق ورسمت فيه الخطوط العريضة. أبقت الولاياتالمتحدةالأمريكية على سرية المحادثات، لأنها اعتبرتها غير ذات أهمية، لكنها قررت إطلاع شركائها الخمسة عليها لاحقاً، وهي مهمة تولاها أوباما شخصياً لحساسيتها، كما أطلع حليفه الإسرائيلي بنيامين نتنياهو على فحواها في 30 سبتمبر الماضي. العقدة الأساسية التي وقفت في واجهة المفاوضات بين إيران والسداسية الدولية، تمثلت في التوصل إلى وضع نص مكتوب لاتفاقية أصرت إيران على تضمينها اعترافاً دولياً في حقها في تخصيب اليورانيوم، لكن الغرب استظلّ الاتفاقية الدولية لمنع انتشار السلاح النووي واعتبر أن صدور أي نص مكتوب يمنح دولة ما الحق بالتخصيب هو مخالف لمبدأ الاتفاقية الدولية لمنع انتشار السلاح النووي وستكون سابقة تاريخية. على هذا الأساس لجأ الجميع إلى صياغة نص منح إيران هذا الحق دون ذكره صراحة، وورد ذلك في غير بند من الاتفاقية بين الطرفين، كالبند المتعلق بمنع إيران من التخصيب بنسبة 20% ما يعني أن لها الحق في التخصيب بنسبة أقل، أو بعدم زيادة أجهزة الطرد المركزي للتخصيب ما يعني أيضاً أن باستطاعتها استخدام الأجهزة الموجودة أصلاً. حققت إيران مكاسب رئيسية من خلال التوقيع على الاتفاقية رفعت عنها جزءاً مهما من العقوبات الدولية في مرحلة أولية، وكرستها دولة نووية باعتراف أممي دولي، في المقابل وضعت حداً، وإن كان مؤقتاً، لأي طموح نووي عسكري محتمل، من خلال وقف العمل بمعمل «أراك»، وهو المنشأة النووية الإيرانية الوحيدة المخصصة لاستخدام تقنية «المياه الثقيلة» التي تسمح بالوصول إلى البلوتونيوم دون الاعتماد على التخصيب، وهي طريقة طبقها الأمريكيون والإسرائيليون لإنتاج القنبلة النووية وتعد الأسرع في إنتاج هذا النوع من الأسلحة. من هنا برز «أراك» كإشكالية رئيسية أصرت فرنسا على الوقوف عندها منذ اللحظات الأولى لجلوسها على طاولة التفاوض. وتعهدت إيران حرفياً في نص الاتفاقية «بعدم تشغيل مفاعل «أراك» في المرحلة المقبلة أو نقل الوقود أو المياه الثقيلة إليه أو إنتاج وقود خاص به أو تركيب ما تبقى من أجزاء لتشغيله»، وتعهدت أيضاً بعدم بناء منشآت نووية جديدة أو معالجة اليورانيوم أو إعادة تدويره لإنتاج البلتونيوم، إضافة إلى تصفية مخزونها من اليورانيوم المخصب بنسبة 20 في المائة على مرحلتين، وتحويل نصفه للاستخدام في مفاعل طهران التجريبي وتخفيض نسبة تخصيب الجزء الباقي من 20 إلى 5 في المائة، عن طريق مزجه بمادة اليورانيوم الخام. إضافة إلى تسليم خرائط منشآتها وعدم تطوير آلات تخصيب جديدة وبمود أخرى تقيّد المشروع النووي الإيراني وتقفل عليه كافة المنافذ لعدم تحويله إلى مشروع عسكري. أولى تداعيات الاتفاق الإيراني – الغربي ظهرت في المرونة الزائدة التي أبدتها واشنطن في حيثية حضور إيران في مؤتمر جنيف 2 الخاص بحل النزاع في سوريا، مشروطاً بموافقة السعودية والائتلاف السوري المعارض، حسب مصادر موثوقة على علاقة بالتحضيرات الجارية لعقد «جنيف 2» السوري. سبق هذا التطور اللقاءات الودية بين وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف ونظيره الأمريكي جون كيري خلال اللقاءات الأخيرة في الأممالمتحدة في جنيف وقبلها في نيويورك، بعد علاقة حكمها التشنج والعدائية منذ عقود ثلاثة، تصاعدت حدتها بعد فرض الولاياتالمتحدةالأمريكية وأوروبا حزمة عقوبات إضافية على طهران عام 2009، واتخذت أوروبا في 2012 قرار وقف استيراد النفط من إيران وأطبقت حصاراً ومقاطعة مالية على بنوكها، أضيفت إلى سلة عقوبات مفروضة على البلاد منذ العام 1979، تاريخ الإطاحة بالشاه والتحول إلى دولة إسلامية. ويتوقع أن يفتح الاتفاق النووي الأبواب أمام دول المنطقة لتحذو حذو إيران والتفكير عملياً ببناء محطات نووية للاستخدام المدني، وهو حق لكل الدول ما دام معترفاً به لإيران، وكان واضحاً من خلال تصريح مجلس الوزراء السعودي في جلسة يوم الإثنين 25 نوفمبر في هذا الاطار، فبعد أن رحب بالاتفاق النووي المؤقت واعتبره «خطوة تجاه حلّ شامل لبرنامج طهران النووي المتنازع عليه» كما رأى أن هذا الاتفاق قد يستتبع بفتح الطريق أمام «ضمان حق كافة دول المنطقة في الاستخدام السلمي للطاقة النووية»، ويبدو أن ترحيب السعودية الرسمي بالاتفاق الغربي مع إيران يبشر بتعاطٍ جديد بين الدولتين الجارتين، بعد أن ارتاحت السعودية من سلاح إيران النووي بضمانة دولية، وفيما لو كتب للعلاقات بين البلدين أن تفتح صفحة جديدة أكثر إيجابية، فسيكون لذلك بلا شك انعكاسات على معظم ملفات المنطقة الشائكة وأهمها في سوريا عشية انعقاد مؤتمر جنيف 2 لحل النزاع السوري، ويجري العمل حالياً في اتجاهات عدة يقود بعضها الأخضر الإبراهيمي الموفد الأممي – العربي الخاص لحل الأزمة السورية من أجل حلّ عقدة المشاركة الإيرانية في «جنيف 2» بموافقة السعودية. وفيما لو نظرنا بعيداً لتداعيات الاتفاق الإيراني – الدولي، من زاوية الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، فإن التوقعات الغربية تشير إلى تغيير كبير في قواعد اللعبة، والأسئلة التي تطرح اليوم في هذا المجال، ما هو موقف إيران من الصراع مع إسرائيل فيما لو تحولت العلاقة بينها وبين الولاياتالمتحدة إلى علاقات صداقة؟ وما هو مصير الدعم اللامحدود لحزب الله في هذه الحالة؟ وهل سترضى الولاياتالمتحدة بثنائية علاقات مع إيران من جهة ومع إسرائيل من جهة أخرى مع الإبقاء على حالة عداء بين إيران وإسرائيل؟ ربما تكون هذه الاسئلة خارج المرحلة الحالية، لكن منطق الاستراتيجية الأمريكية التي تفكر بفك الارتباط مع الشرق الأوسط يقول بعدم جواز محافظة الولاياتالمتحدة على نقاط ساخنة في علاقاتها مع دول المنطقة ولا سيما إيران، عند هذا المستوى تصبح هذه الأسئلة ضرورية. يعود الاستعجال الأمريكي في طي صفحة الخلاف مع إيران إلى أسباب ثلاثة: الأول هو قطع الطريق على أي طموح عسكري للبرنامج النووي الإيراني بهدف ضمان أمن إسرائيل، ولو أظهرت إسرائيل في الفترة الأخيرة نفسها حالة من الغضب الشديد بسبب موافقة المجتمع الدولي على احتفاظ إيران بمشروعها النووي لأهداف مدنية، إلا أنها «إسرائيل» كانت أكثر المستفيدين من قطع الطريق على إيران من التحول إلى قوة نووية، وهكذا، ستبقى إسرائيل الدولة الوحيدة في المنطقة التي تملك سلاحاً نووياً تكسر به أي توازن استراتيجي مع أعدائها. السبب الثاني استراتيجي، إذ تحاول الولاياتالمتحدةالأمريكية فك الارتباط مع نفط منطقة الشرق الأوسط، بعد معلومات وكالة الطاقة الدولية التي أظهرت أن أمريكا ستغدو أكبر منتج للنفط في العالم في 2017، إذ تقترب من تحقيق الاكتفاء الذاتي بفضل زيادة حادة في إنتاج الغاز والنفط الصخريين. والسبب الثالث يتعلق بالخط التصاعدي للخلافات مع المارد الأصفر «الصين»، واحتمال المواجهة المفتوحة المقبلة الصينية – الأمريكية في منطقة جنوب شرق آسيا، وكانت مراكز الدراسات الأمريكية قد حذرت في عدد كبير من الدراسات من أن القرن الواحد والعشرين سيكون قرناً صينياً، ليس على المستوى الاقتصادي فقط بل أيضاً على المستوى العسكري. ويبدو أن البيت الأبيض ومؤسسة الاستخبارات الأمريكية بدأت ترصد عن قرب تطورات الأوضاع داخل الأراضي الصينية، وتسجل بدقة التصاعد المطرد في معدلات النمو الاقتصادي ودعم الحركة التصنيعية، والتفوق في المجال العسكري، وعليه فإن الولاياتالمتحدة تحاول تسوية الخلافات في المنطقة كمقدمة لفك الارتباط معها والتفرغ لمواجهة القوة العظمى المقبلة، ولا تجد الولاياتالمتحدة مشكلة في أن تسوي الخلافات مع عدوتها إيران والارتباط معها بمنطق علاقة تشبه التحالف، كونها من أكبر القوى الإقليمية. وإذا كانت الأسباب الاستراتيجية – والاقتصادية أيضاً – دفعت الولاياتالمتحدة إلى اتجاه تخفيف حدة التوتر مع إيران، فإن لأوروبا أهدافا مختلفة تماماً اقتصادية بحتة، فإيران لم تتمكن من تحديث بنيتها التحتية منذ سنين بسبب الحصار، ولنأخذ مثلاً قطاع النفط، فقد تراجع سعر النفط مباشرة بعد الاتفاق النووي، ورأت شركات الطيران أسهمها ترتفع في البورصة العالمية، وخلال فترة بسيطة سيعود النفط الإيراني للتصدير وتعتبر أوروبا من أكبر المستوردين للنفط الإيراني، أما قطاع السيارات، فقد أوقفت شركة بيجو الفرنسية تصدير منتوجاتها إلى الجمهورية الإسلامية منذ العام 2012، أي في مرحلة انكماش اقتصادي رفيع في أوروبا، وشقيقتها «رينو» اضطرت بدورها للتوقف عن التصدير مطلع العام 2012. في الختام تبقى الاتفاقية مرهونة بمدى التزام الجانب الإيراني في تطبيق تعهداتها خلال الستة أشهر المقبلة.