«إن سحبت من إنسان عادي كذبة حياته، فإنك تسحب معها سعادته أيضا». يقتبس بطل الرواية «إلياس» هذه العبارة من إحدى شخصيات مسرحية من الأدب النرويجي. دون أن يفوت القارئ ما للاقتباس من تطابق مع حياة البطل شخصياً. يسرد الكاتب الرواية من منظور بطلها إلياس بأسلوب هادئ ولكنه عميق، وبطريقة المنولوج الداخلي الذي انبثق بداخل إلياس بعد أن تقاطعت به أحداث حياته إلى أن أوصلته في مكان وزمان معين إلى اللحظة/الموقف الذي تفجر معه كل ما كان مركوماً عبر سنوات من تأجيل الوعي. لقد قضى إلياس ما يقارب خمسة وعشرين عاماً مكرراً نفس الشروحات والتأملات للنصوص التي يُدّرسها في مادة الأدب النرويجي لطلبة المرحلة الثانوية. بذات الروتين العادي لرجل في الخمسين من عمره يعيش حياته مع زوجة في الأربعين أخذت تفقد جاذبيتها مع الوقت. تبدأ الرواية في يوم الاثنين الذي استيقظ فيه إلياس صباحاً دون أن يدرك بأنه اليوم الذي سيغير حياته. في هذا اليوم تغدو مسرحية «البطة الجامحة» النص الذي لطالما شرحه، أكثر ابتعاداً وتعذراً على إحساس الطلبة وتذوقهم، يبدو الطلاب أكثر غضباً وضجراً، ويبدو هو نفسه أكثر تعصباً للنص وبؤساً به. لم يكن قادراً على منع نفسه من الألم للفجوة المهولة بين الأدب الذي آمن به منذ دراسته الجامعية وبين هؤلاء التلاميذ الذين يحدقون به بعيون فارغة أو لعلها حانقة؟ تجاه مدرس يرونه يضيع وقتهم. في فترة الاستراحة يقرر إلياس إنهاء يومه في المدرسة ويعبر باحتها في طريقه للخروج، يأخذه الغضب بعد أن استعصى عليه فتح مظلته فيخبط بها على نافورة المدرسة بشكل جنوني ويقفز عليها محاولاً تحطيمها، ليلاحظ متأخراً تجمهر الطلبة من حوله بنظرات ملؤها الدهشة. يلتفت غاضباً لتقع عيناه على إحدى التلميذات فيصرخ فيها شاتماً. منهياً كل شيء بعد أن أدرك أن المدرسين يراقبونه من شباك حجرتهم. يخرج من المدرسة بيأس ضائعاً في شوارع المدينة مستسلماً لهذيانه العقلي بالانهمار والتمزق بين الذكريات والواقع والمبادئ والأفكار التي اعتنقها يوماً مصارحاً نفسه بكل الأمور التي خجل منها دائماً. يعود إلى الوراء إلى حياته قبل الزواج، يتذكر إعجابه غير المحدود بصديقه الماركسي جوهان الزوج السابق لزوجة إلياس الحالية إيفا، جوهان وأفكاره الجريئة وعقليته المتوثبة، وطموحه غير المحدود، وبلاغته في الحديث، وتفوقه في دراسة الفلسفة، وشخصيته الجذابة وقدرته على كسب إعجاب النساء من حوله. يستحضر إلياس حبه العميق وغير المعبر عنه لإيفا «لقد كان مأخوذاً بها كونها زوجة جوهان». إنه دائماً في الخلف في دوره في الحياة، وفي الأحاديث التي يتبادلها أصدقاؤه ويقتصر دوره فيها على الاستماع والموافقة دون أن يحاول يوماً أن يطرح ما يموج برأسه من آراء وأفكار. منجرفاً مع تحليل نصوص من الأدب النرويجي متسائلاً إن كان يمكن لحياته الفارغة أن تكون دوراً في رواية، «إن تصنيف المرء نفسه على أنه مؤهل للعب دور الشخصية الأساسية في أي رواية، هو بالطبع إنجاز في حد ذاته، لكن بأي حق عساي أتخيل أنه يمكن النظر إلى كلاعب لهذا الدور، خصوصاً في رواية من كتابة طوماس مان؟ ما كان طوماس ليعبأ بي وبمآسي، ولم بحق الله عساه يعبأ بها؟» إن حياته الفارغة هذه يشاركه فيها عشرات المدرسين من أمثاله، الذين يحاولون الاندماج في المجتمع كأشخاص عصريين ولو عبر تقديم قروضهم المالية كطابع مشترك مع الآخرين «عند وجود شخصين… فإنهما يقدمان نفسيهما إلى بعضهما بعضا كعبدين للمديونية، وينخرطان في الحديث عن هذا الدين كنقطة انطلاق، وذلك حيثما يحضران في موقع العبودية ذاته، أي في غرفة الأساتذة». كان يعيش بداخل ذاته ف«كم كان يتوق إلى التحدث مع أحد» رغم وجود زوجته إيفا التي أحبها بجنون بقربه. حيث لم يقدر على سبر أغوارها إذ لم تفتح له أعماق ذاتها يوماً، وهو الذي شاركها حياتها منذ رحيل جوهان. لقد استلم جوهان عرض عمل خيالي في نيويورك إنه الماركسي الذي سيدخل في خدمة الرأسمالية، وهو راغب في تحقيق ثروة ولأنه ليس لإيفا ولابنتهما ذات الأعوام الستة من مكان في مستقبله، فقد تركهما في عهدة إلياس الذي وجد كلام جوهان عن الرحيل «ساخراً ومربكاً ومؤلماً». كان إلياس يعرف أن مدير المدرسة سيعمل على تلافي الموقف وترميمه، وكان يعرف أن أصدقاءه سيحاولون إقناعه أن لا شيء يذكر حصل في باحة المدرسة. لكنه شعر بأنه سقط «سقط من المجتمع ببساطة» لن يعود إلى التدريس رغم يقينه بأن زوجته لن تتقبل هذا الوضع أو تتأقلم معه. لقد انتهى كل شيء بالنسبة له بعد أن رسم الخجل والكرامة ملامحهما على تفاصيل ذكرياته ومستقبله.