طلب مني بعض طلابي وطالباتي في الدراسات العليا أن أقول شيئًا عن طبيعة المقال الذي أنشره منجماً يوم الأربعاء في هذه الجريدة. وسبق أن تناولت بعض ما طلبوا في مقال بعنوان: كيف أكتب. والمقال الذي أنشره قد يكون مختلفًا عن المقال الأدبي أو العلمي البحت، كما أنه بلا شك يختلف عن المقال الصحفي الصرف. لكنه اختلاف تنوع لا اختلاف تضاد. على أن الذي يجمع بينهم أكثر مما يفرق. وللنقاد العرب وغير العرب آراء متعددة في تعريف المقال بأنواعه. الأفكار وهي الحقائق الفكرية المتعلقة بموضوع المقال، أو العناصر المعنوية الخاصة التي من لبناتها تتبدى محاور المقال وتتآزر في تشكيله الفكري. فتأتي في نظري من خصب الفكر وعمق النظرة وما يُحقق الاقتناع به وتتردد أصداؤه في ثنايا جوانحي وعند النقاد العرب أنه عمل نثري محدود، يتناول موضوعًا محدودًا من مجالات الحياة المتعددة بالنظر الشخصي والتعبير الفني والعرض المنهجي المثمر. أما عند النقاد الغربيين فهم على مشارب متعددة. فمنهم من يرى أن المقال نزوة عقلية لا ينبغي أن يكون له ضابط من نظام؛ فهو قطعة لا تجري على نسق معلوم، بينما يذهب آخرون إلى أن المقال عبارة عن ملاحظات مختصرة كُتبت من غير اعتناء، وأنها مذكرات موجزة يُعنى فيها بمعانيها لا بأسلوبها، وأنها أفكار متقطعة. ومهما يكن من أمر فالمقال عندي يقوم على هيئة هرم ثلاثي الأضلاع وليس متساوي الأضلاع ويضم: المقدمة وجسم المقال والخاتمة. هذه هي القاعدة الذهبية التي أعتمدها في بناء مقالي. ففي المقدمة أبيّن موضوع المقال وأهميته ودواعي كتابته إن وجدت. ثم أُثنيّ بجسم المقال فأعرض معلومات المقال مع إبراز الخلفية التاريخية للموضوع، وكشف أبعاد الموضوع ودلالاته المختلفة. أما خاتمة المقال فتضم خلاصة رأيي عن الموضوع المطروح. وعلى هذا يمكن القول إن الخاتمة تعد من أهم العناصر المؤثرة فى المقال، ذلك أنها آخر ما يطالعه القارئ، وآخر ما يترك لدى القارئ انطباعاً عن المقال وكاتبه. وقد حدثني بعض نقاد الأدب عندنا أن طبيعة مقالي وغيره من المقالات اليومية أو الأسبوعية التي تظهر في الصحف السيارة أقرب إلى فن العمود الصحفي، من حيث التعبير الشخصي الذي ينم عن تفكير صاحبه، وروح المذهب الأدبي أو السياسي الذي يميل إليه، ونظرته إلى الحياة، سواء كانت روحه ساخرة أو متواضعة، أو متغطرسة أو متكبرة. ولعل السبب في هذا الاستنتاج كون مقالي يجمع، شأنه شأن العمود الصحفي، بين بساطة اللغة الصحفية، وجمال اللغة الأدبية، وكذلك كونه يقوم على التجارب الذاتية. وأحب أن أزيد إلى ما قاله نقاد الأدب عندنا أن جسم مقالي له تكوينان: التكوين الداخلي: وهو أن أصدر عن معايشة لموضوع المقال؛ حتى تتبلور في ذهني رؤية واضحة له، وإطارًا فنيًّا محددًا له، وهدفًا لا يخطئ الوصول بالقارئ إليه. وسبيل ذلك - فيما أرى - يتمثل في طريقين: تحددهما العلاقة بين الكاتب ومقاله من ذاتية أو موضوعية، يتبادلان السبق والتسلية دون أن يخلو منهما أمران: الانفعال والتفكير. أما التكوين الخارجي لمقالي فأحرص أن يشمل لبنات يتشكل منها جوهر بنائه، ويتحقق من مجموعها هيكله العام، وهي تتفق إلى حد كبير مع عناصر الفنون الأدبية الأخرى، التي لا مناص في تكوينها الفني من ارتدادها إلى تجربة أدبية، بكل ما تقوم عليه تلك التجربة من قيم شعورية وتعبيرية، وما يجب أن يتحقق فيها من خصائص معنوية وفنية. كما أنني أعتني بالمادة الأدبية والثقافية والعواطف الإنسانية والتجارب الشخصية المفيدة. كما أحرص أن أعرض في ثنايا مقالي المعارف الإنسانية والمعلومات والآراء التي تكونت لديّ من التراث الإنساني في شتى نواحي الحياة السياسية والاجتماعية والعلمية والفلسفية، أو ثقافة العصر وتياراته الفكرية المتعددة؛ حيث أتفاعل معها وأتخذها ينبوعًا نميرًا للمعرفة الواسعة. أما الأفكار وهي الحقائق الفكرية المتعلقة بموضوع المقال، أو العناصر المعنوية الخاصة التي من لبناتها تتبدى محاور المقال وتتآزر في تشكيله الفكري. فتأتي في نظري من خصب الفكر وعمق النظرة وما يُحقق الاقتناع به وتتردد أصداؤه في ثنايا جوانحي. وأعتني بمظهر المقال الخارجي من ترتيب الجمل، والعناية باللغة والأسلوب، وعلامات الترقيم. وأحرص أن يكون أسلوبي رشيقًا واضحًا قصير الجُمل. ولا أميل للاستطراد إلاّ في حالات ضيقة. وأحرص أن تكون ألفاظ مقالي قدودًا للمعاني دون زيادة أو نقصان. وأحاول أن تكون مطابقة للأسلوب وللنحو العربيين. وفي حالات أتعمد الأخذ بتجديدات النحاة المعاصرين والأدباء المشهورين مثل طه حسين وأضرابه، أو ما صدر عن مجامع اللغة العربية، لهذا يجد القارئ في بعض ما أكتب خروجًا متعمدًا عن قواعد النحو الكلاسيكية المعروفة.