في تاريخ 9/11/1428ه أقر مجلس الوزراء الموقر القرار رقم 335 القاضي بالموافقة على قواعد وإجراءات ترشيد استهلاك المياه في المجالات الزراعية. هذا القرار يتضمن (21) بنداً أبرزها من حيث التطبيق هو البند الأول الخاص بتوقف المؤسسة العامة للصوامع عن شراء القمح المنتج محليا من جميع مناطق المملكة بشكل نهائي خلال (8) سنوات، بهدف تحقيق ترشيد فعلي لاستهلاك المياه الجوفية، إلا أن البند رقم (14) والذي ينص على النظر في وضع المزارعين في القطاع الزراعي في حال تأثرهم بهذا القرار تم إهماله كليا من قبل المؤسسات (وزارة المياه والكهرباء ووزارة الزراعة) المعنية بتطبيق هذا القرار. وحيث إن الموسم الزراعي القادم لسنة 1436ه يمثل السنة الأخيرة لشراء الصوامع القمح المحلي مما يعني فعليا بأن القرار سوف يكمل سنته الثامنة من حيث التطبيق، ونجح في القضاء وبشكل كامل على زراعة محصول القمح ذي الأهمية الإستراتيجية والذي يزرع في فصل الشتاء ويأتي في أسفل سلم المحاصيل الزراعية من حيث استهلاك مياه الري. لكن القرار نفسه فشل بترشيد استهلاك المياه المخصصة للأغراض الزراعية. لماذا فشل القرار في تحقيق ما أريد منه؟ بعد سبع سنوات من التطبيق الفعلي للقرار، وهي مدة كافية للتقييم المحايد له، فإن الأرقام والزيارات الميدانية لمواقع النشاط الزراعي تشير إلى الهدر المخيف للمياه الجوفية في جميع المناطق الزراعية بسبب التوسع الهائل في زراعة المحاصيل الزراعية الأخرى وخصوصاً الأعلاف والنخيل والبطاطس والبطيخ والفاكهة الأخرى كالزيتون والحمضيات. والأرقام الدقيقة تؤكد أن كمية المياه التي استهلكها القطاع الزراعي عام 1428ه (سنة صدور القرار) والمقدرة (17) ألف مليون متر مكعب هي نفس كمية مياه الري التي تم استهلاكها عام 1435ه رغم خروج ما يقارب (250) ألف هكتار من الزراعة المروية. ويمكن حصر الأسباب الرئيسة لهذا الفشل بما يلي: 1. ما لم يفهمه صناع القرار في وزارتي المياه والزراعة، هو أن الطفرة الزراعية الحديثة التي بدأت عام1975م أوجدت قطاعاً زراعياً يمثله عدد كبير من المزارعين في جميع مناطق المملكة وخصوصا الفقيرة منها التي تتواجد بها الطبقات الرسوبية الحاملة للمياه مما أدى إلى اعتمادهم الكامل على الزراعة كمصدر أساسي للدخل، ومثل القمح مصدراً مهما لدخلهم لتأمين مستلزمات الحياة لهم ولعائلاتهم. هؤلاء المزارعون يملكون البنية التحتية للزراعة ولم يتم النظر نهائيا لوضعهم تطبيقا للبند(14) من القرار 335. ولهذا بحثوا عن وسيلة أخرى لتأمين دخل سنوي لهم، فقاموا مضطرين بتأجير مزارعهم للعمالة الأجنبية التي تتواجد بأعداد كبيرة في جميع المناطق الزراعية. 2. الغياب الكامل للرقابة والمتابعة من وزارتي الزراعة والمياه عما يحدث في مواقع النشاط الزراعي في المناطق الرئيسة والثانوية بالمملكة، مما أدى إلى تكوين مافيا زراعية من العمالة الأجنبية تستأجر المزارع وتستنزف المياه الجوفية بأسلوب كارثي، بل أصبح لكل جنسية محاصيل خاصة بها تأتي في مقدمتها الأعلاف والنخيل والبطاطس والبطيخ، وبعض الرشاشات يتم زراعتها أكثر من مرة في السنة. والأجرة السنوية للرشاش الزراعي التي تدفع للمزارع المحلي تتراوح من مائة وخمسين ألف ريال إلى مئتين وخمسين ألف ريال بالسنة وذلك وفقا لمساحة الرشاش ونوعية مياه الري، وقد أدى ذلك إلى تأمين دخل سنوي للمزارعين الذين تم إهمالهم ومكن العمالة الأجنبية من الطبقات البسيطة الأمية وشبه الأمية من استنزاف مياهنا الجوفية ونحن من خبراء زراعيين وصناع قرار نظهر بمظهر السذج الذين يقفون موقف المتفرج في الوقت الذي يتم فيه تدمير مواردنا المائية. 3. التوسع العشوائي غير المدروس وغير المبرر في الزراعة المروية إبان الطفرة الزراعية أدى إلى ردة فعل عاطفية وغير مدروسة وسلبية للغاية، انتهت بإقرار القرار رقم 335 دون التفكير بالقدرة على تطبيق الكثير من بنوده التي ظلت حبرا على ورق مثل البند رقم(8) الخاص بتركيب عدادات لقياس المياه المتدفقة من الآبار. وفي رأيي المتواضع فقد نجح القرار باستهداف القمح لسبب رئيسي يكمن بكون القمح هدفاً سهلاً لايحتاج للمتابعة الحقلية ووضع الضوابط والشروط لتنفيذ ذلك، فكل ما تحتاجه الدولة هو إيقاف شرائه مما يعني القضاء عليه (هذا ما حصل بالضبط) دون التفكير بالعواقب الاجتماعية والاقتصادية لعموم المزارعين. حقائق مهمة عن خصوصية القطاع الزراعي المحلي أولا: يعتقد بعض المؤيدين لقرار ترشيد استهلاك المياه المخصصة للقطاع الزراعي بعدم وجود عائد اقتصادي من زراعة محصول القمح محلياً وهذا الكلام غير دقيق ومرفوض جملة وتفصيلا، فجميع مدخلات هذا المحصول(البذور والأسمدة ومعظم المبيدات) تنتج محليا مما يعني بأن جميع المبالغ المدفوعة لشراء هذا المحصول تبقى دورتها الاقتصادية داخل الاقتصاد المحلي، ولكم أن تتخيلوا مدى الفائدة الاقتصادية لو ان نصف المبالغ التي دفعت خلال السنوات السبع الماضية لشراء القمح من خارج الحدود، تم دفعها للمزارعين داخل الحدود وتم تدويرها داخل اقتصادنا المحلي. بالإضافة إلى الجانب الفني المتمثل في حماية مواقع إنتاج القمح من زراعتها بمحاصيل أخرى تستهلك من المياه أضعاف ما يستهلك القمح. وبسبب خصوصية قطاع الزراعة المروية المحلي سيبقى محصول القمح حلقة التوازن الوحيدة التي يمكن لها المساهمة الفعلية في ترشيد استهلاك المياه المخصصة للقطاع الزراعي. ثانيا: ينادي الكثير من غير المختصين وبعض كتاب الأعمدة في الصحافة المحلية ومن منطلق وطني باستنباط أصناف من المحاصيل الزراعية وخصوصا القمح يمكن زراعتها باستخدام مياه البحرالمالحة. ليعلم الجميع إن هذا غير ممكن علميا بواسطة الاستنباط التقليدي، ولوأمكن ذلك عن طريق التعديل الوراثي والذي لا ينصح به على الإطلاق فإن وسط النمو وهو التربة الزراعية لا يمكن لها أن تتحمل مياه البحر ذات الملوحة العالية لأن تلك المياه سوف تؤدي إلى تدمير التربة الزراعية وخصوصا منطقة انتشار الجذور وكذلك تدمير الصفات الكيميائية والفيزيائية لقطاع التربة . وقد قامت العديد من مراكز البحوث وبعض الجامعات في أماكن عديدة من العالم بالعديد من المحاولات إلا إنها جميعها انتهت بالفشل لم يكتب لها الحد الأدنى من النجاح. ثالثا: لدينا مشكلة كبرى يعاني منها القطاع الزراعي المحلي وتكمن بالضعف الفني لمؤسسات القطاع العام المعنية بالزراعة المحلية(وزارتي المياه والزراعة) وهنا سوف أكتفي بذكر مثالين يمكن الاستشهاد بهما: 1. قبل عدة سنوات طالبت وزارة الزراعة بموافقة المجلس الاقتصادي الأعلى على إقرار إعانة زراعية لمحصول المانجو الذي ينمو في منطقة جازان وسهول تهامة وأيدت وزارة المياه ذلك وتمت الموافقة على إعانة مقدارها 250 ريال للطن، والإعانة تعني تلقائيا التوسع بزراعة هذا المحصول شئنا أم أبينا. المشكلة التي لم ينتبه لها مسؤولو الوزارتين هي إن منطقة نمو أشجار المانجو يتم ريها من تكوين مائي سطحي ملاصق للبحر وأن الزيادة في عدد الآبار والمياه المستخدمة لري هذا المحصول وغيره من المحاصيل الأخرى ستؤدي إلى ظاهرة تداخل مياه البحر(sea water intrusion ) مع المياه العذبة المستخدمة للري في هذه المنطقة وهذا سيؤدي إلى تملحها وربما تدمير كامل التكوين السطحي للمياه العذبة من الموسم جنوبا وحتى بيش شمالا وربما يصل أثر التملح إلى المظيليف شمال بيش، وليعلم الجميع أن التكوينات المائية السطحية العذبة الملاصقة للبحار تحتاج إلى رقابة صارمة لوضع توازن دقيق بين الاستعاضة والاستنزاف، وهذا يبدو ما يجهله منسوبو الوزارتين ولذلك تم إقرار الإعانة. 2. لا جدال بأن أحد أسوأ الآفات الزراعية في تاريخ الزراعة المحلية هي سوسة النخيل الحمراء التي تفتك بمحصول النخيل المحلي وتتوسع سنة بعد أخرى وتغزو مناطق زراعية جديدة لم تكن موجودة بها أصلا، لقد كانت ميزانية برنامج مكافحة هذه الحشرة عام 1423ه بحدود (13) مليون ريال وفي عام 1435ه أصبحت ضعف هذا الرقم عدة مرات ولا يوجد في الأفق أي إمكانية للقضاء عليها والسبب في ذلك هو الضعف الفني للمؤسسة المعنية (وزارة الزراعة) بالقدرة على القضاء على هذه الآفة، وكل ما يتم القيام به عبارة عن اجتهادات العائد منها محدود جدا. خاتمة أرى أنه حان الوقت للاعتراف بأن القرار رقم 335 فشل فشلا ذريعا بترشيد استهلاك المياه المخصصة للقطاع الزراعي وما يحدث في مواقع النشاط الزراعي في جميع مناطق المملكة حاليا يؤكد ذلك، ومن يشكك في ذلك فعليه ترك مكتبه وزيارة مواقع النشاط الزراعي في الشتاء القادم ليرى بعينه مدى فداحة الكارثة التي سببها التطبيق السيئ للقرار آنف الذكر. ومن منطلق وطني أود أن أشير إلى أن هناك نموذجاً يمكن تطبيقه على الزراعة المحلية يكفل استدامة النشاط الزراعي في المملكة ويشمل العديد من المحاصيل الزراعية ويسهم في تأمين جزء من الأمن الغذائي للمملكة ويجعل استهلاك القطاع الزراعي من مياه الري من التكوينات الجيولوجية الرسوبية والدرع العربي لا يتعدى (5) آلاف مليون متر مكعب في السنة، هذا إذا كانت الرغبة صادقة للقيام بذلك. لكن هذا يتطلب العزيمة والإصرار ووضع التشريعات والضوابط لتحقيق ذلك علما بأن هذا النموذج سوف يؤدي إلى إخراج 90% من الأجانب عن السيطرة على الزراعة المحلية وبدون أي ضجة إعلامية، وأنا على أتم الاستعداد لعرض هذا النموذج ومناقشته مع من له رغبة بذلك. أخيرا ليس من المصلحة العامة أن نترك لعدد من المسؤولين في وزارتي المياه والكهرباء والزراعة لا يتعدى عددهم أصبع اليد الواحدة اختطاف الموارد المائية والقطاع الزراعي والدفاع إعلاميا عن قرار ألحق ضررا بالغا بالموارد المائية والأمن الغذائي والأمن الاجتماعي لهذا البلد، وعلينا أن نتذكر بأننا ارتكبنا هذا الخطأ سابقا عندما تركنا لعدد محدود من المسؤولين في وزارة الزراعة والمياه سابقا المجال للتحكم بمواردنا المائية والأرضية فكانت النتيجة كارثة لا زلنا نحاول تجاوزها إلا أن نجاحنا لا يزال محدودا. والله من وراء القصد. * مدير عام مراكز البحوث بوزارة الزراعة سابقاً وخبير الزراعة المروية في المناطق الجافة