يعرف المهتمون بأن جون لوك من أشهر وأهم فلاسفة العصر الحديث إنه بنفوره من التمدرس وتمرده على التفكير التعليمي المغلق واعتماده على نفسه وانفصاله عن التفكير السائد وتحولاته المفصلية وإنجازاته الريادية وثباته المشهود وتأثيره الواسع والعميق إنه بذلك شاهدٌ قوي من شواهد نظرية الريادة والاستجابة ونظرية عبقرية الاهتمام التلقائي فقد خَضع في طفولته لتنشئة دينية مسيحية صارمة كما خضع في التعليم قبل الجامعي لتعليم ديني متحجر.. لو كان غيره قد تعرَّض لكل ذلك لكان كافيًّا لقولبته ليبقى مأخوذًا كل عمره بهذه التنشئة المغلقة وهذا التعليم المتحجِّر لكن جون لوك فردٌ استثنائي فبدلاً من التبرمج الأعمى والأصم بهذه التنشئة القامعة وبهذا التعليم القسري الذي يحتل القابليات فيفسدها نشأ بعكس ما أريد له كارها لهذا النمط من التنشئة والتعليم كغيره من المهيئين فطريًّا ليكونوا من رواد الفكر. إن كل ريادة هي انفصالٌ عن التيار السائد واقتحامٌ لمسالك غير مطروقة فإذا استجيب للرائد تقدم المجتمع وتقدمت الحضارة وبهذا الجدل المتكرر بين الانتظام والاقتحام تطورت المجتمعات المزدهرة أما المجتمعات التي ترفض المغاير وتحارب الرواد فإنها تصير في حالة تراجع مستمر فبقدر رفضها للانفتاح تتضاعف قلاع التحجُّر وتكثر الأقفال والخنادق والأسوار والمتاريس وموانع النهوض. إن القوالب الثقافية بعد ظهور أية ريادة فكرية خارقة لا تبقى كما كانت قبله فالمجتمع إما أن يستجيب للريادة وهذا نادر جدا بل مستبعَد لكن لو حصل فسوف تتغيَّر ثقافته ونماذجه وقيمه وولاءاته وينفتح عقله للجديد ويصبح قادرًا على الانخراط في الاتجاه الذي يؤدي إلى تصحيح مساره وتحسين أوضاعه أو أن المجتمع يرفض الريادة وهذا هو المعتاد والمطرد حيث يقاوم المجتمع الأفكار الطارئة فيندفع للرد والتحصين ومحاربة ما يعتبره فكرًا وافدًا خطرًا فتزداد الأمور تعقيدًا ويشتد التحجر فيوغل المجتمع في التراجع ومضاعفة موانع النهوض وهذه هي الاستجابة الطبيعية التلقائية فأحداث التاريخ تؤكد أن قبول الفكر المغاير لا يحصل تلقائيًّا بل الرفض هو السلوك التلقائي وإذا استثارت الريادةُ ردودَ فعل قوية كما حصل في التاريخ العربي فإن الأوضاع تصير أشد حساسية ويتشبع الناس خلال الأجيال التالية بالخوف من الأفكار المغايرة فيندفعون لمقاومتها بانغلاق وعنف دون أية محاولة للتفهُّم. أما عن جون لوك فإنه بعد تلك التنشئة الصارمة القامعة وبعد ذلك التعليم الأيديولوجي المغلق قد التحق في جامعة أوكسفورد وكان يراد منه أن يدرس اللاهوت فوجَدَ نفسه أيضا نافرًا من هذه الدراسة فقد انغرس في أعماقه مقْتُ القولبة وكُرهُ التربية القسرية والنفورُ من الجو التعليمي الذي يطمس قابليات النزوع الفردي ويربي الدارسين على القبول التلقائي والطاعة العمياء فيعتادون الوثوق الأبله بما تبرمجوا به وما تلقَّوه تعزيزًا للبرمجة غير أن جون لوك واصل الدراسة رغم نفوره منها حتى التخرج ثم دَرَس الطب وحَصَل على إجازة فيه فمارس مهنة الطب وعمل مع اللورد شفتسبري طبيبًا ومستشارًا وأجرى له عملية جراحية دقيقة ناجحة ضاعفت إعجابه به وتقديره لمواهبه وقد اكتشف أن مواهبه الفكرية أعظم من أن يبقى في عمل مهني سواء في الطب أو غيره فأتاح له الانطلاق في التأمل والبحث وحَماه من حُرَّاس الموروث المتحفزين. ولكن الأهم من ذلك كله هو نقطة التحول المفصلية في حياته الفكرية فقد شارك في مناقشات حامية حول علاقة الأخلاق بالسياسة والدين وكانت هذه المناقشات سببًا في انتباهه لقضية محورية من القضايا الإنسانية فقد لفتت نظره مفارقات تبايُن الرؤى حول الشيء ذاته واقتناع كل طرف وكل فرد بأنه وحْده يدرك الصواب ويعرف الحقيقة وأن الآخرين واهمون وتائهون فأدرك بحدس خارق أنه لا يوجد عقلٌ جوهري عام مشترك يحدِّد مسار الفهم وإنما لكل فرد عقله الخاص الذي تكوَّن بمؤثرات تختلف عن المؤثرات التي كوَّنت عقول الآخرين فلو كانوا يحتكمون لعقل جوهري مشترك موجود عند كل البشر لما كانوا بهذا التضاد الحاد كما أدرك بهذا الحدس الخارق أنه لا يوجد في الذهن البشري آلية تكشف للفرد ذاته خطأ وثوقه التلقائي ولا آلية تنبِّه الفرد بأن عليه أن يتوقف وأن يضع مسافة فاصلة بينه وبين آرائه لكي يراها منفصلة عن هواه وعن تلقائية وثوقه وبسبب غياب هذه القدرة أو هذه الآلية يبقى الخلاف دون حل مهما بلغت قوة البراهين عند أحد الطرفين. لقد لاحظ جون لوك أن الأفراد الذين كانوا يتناقشون أو يشاركون في المناقشات كلهم متعلمون ومن بيئة ثقافية واحدة ومع ذلك تكون بينهم هذه الاختلافات الشديدة الحادَّة وينشأ بينهم هذا الرفض القاطع المتبادل فكل طرف يبقى مقتنعًا بصحة رؤيته وسلامة موقفه وخطأ الرؤية المضادة مهما سمع من براهين!! فكيف إذا كان المتناقشون من بيئات ثقافية واجتماعية متنوعة؟! كيف سيكون التباين في الآراء والتنافر في المواقف والتصادم في الاتجاهات إذا اختلفت الثقافات وتنوعت البيئآت...؟!!! إن هذه التساؤلات الجوهرية الحادَّة قد دفعته تلقائيًّا إلى الانشغال بدراسة العقل البشري وقابلياته وإمكاناته ونقائصه وحدوده ووظائفه وأهدافه فكان من نتائج ذلك تأسيس الاتجاه التجريبي في نظرية المعرفة وهو إنجازٌ عظيم تتنامى قيمته وتتضاعف أهميته مع كل فتح جديد من فتوحات علم الأعصاب ودراسات الدماغ إن جون لوك بذلك الانصراف العميق إلى هذا المجال التأسيسي والاستغراق فيه والاستمرار نحو عشرين عامًا منهمكا في التنقيب والمقارنة والتحليل والتأمل وإن النتائج العظيمة التي توصَّل إليها تقدِّم نموذجًا رائعًا على أن الإفلات من برمجة الطفولة وما غَرَسَتْه البيئة لا يأتي من التعليم مهما كان نوعه ومستواه وإنما يأتي مضادًّا لما تلقاه الرائد في التعليم فهذا الإفلات يتطلب تعرُّص الفرد الذي يملك قابلية التفرُّد والريادة لأحداث وظروف ومواجهات تجعله يُفيق من غيبوبة البرمجة ويُفلت من قبضة المألوف ويبحث بوعي جديد حاد عن رؤية مغايرة إن جون لوك يقدِّم نموذجًا رائعًا على ذلك كما يقدم نموذجًا مُلهمًا على أن الانجازات الكبرى والأعمال الإبداعية لا تأتي إلا باهتمام تلقائي قوي مستغرق فالناس يتعلمون ويُنجزون اندفاعًا أما الدراسة الاضطرارية فلا تُنتج سوى الخواء والكلال فيجب أن ندرك خصوبة التعلُّم اندفاعًا وعُقم التعلُّم اضطرارًا فقابليات الإنسان لا يمكن قسرها ولا حتى من الإنسان ذاته فأنت لا تستطيع أن تُرغم نفسك بأن تُحب ما تكرهه. لقد لاحظ رائد االليبرالية جون لوك أن الناس حتى في المجتمع الواحد ومن مستويات تعليمية متماثلة يختلفون أشد الاختلاف في رؤاهم ومواقفهم واتجاهاتهم إنهم يختلفون باختلاف اتجاه عواطفهم وولاءاتهم ومحتوى عقولهم وما تبرمَجتْ به ذواتهم أي بتنوع المؤثرات والقوالب التي شَكَّلَتْ قابلياتهم فلا يستطيع طرفٌ أن يُقنع طرفًا مضادًّا عن طريق البراهين والمنطق بل يبقى كل طرف بعد المناقشات الحادة أشدَّ اقتناعًا برؤاه وأعمق إصرارًا على مواقفه فالقبول أو الرفض مصدره اللاوعي المستقر فلا تفيد معه الحجج مهما كانت فالإنسان تحركه البرمجة العميقة التي تختفي في اللاوعي إنه محكومٌ بالعواطف وليس بالعقل ولكنه يتوهم أنه يفعل ذلك بمنتهى التعقُّل إن هذا التوهُّم هو الذي يعوق إمكانات تصحيح الرؤى ويحول دون تغيير الاتجاهات ويمنع تبديل المواقف ولو عَرَف الناس حقيقة ماهم خاضعون له تلقائيًّا لصاروا قابلين للانفتاح على المغاير ومستعدين نفسيًّا وذهنيًّا لتقبُّل التغيير لكن الإنسان لا يعلم أنه لا يعلم. والمعضلة الإنسانية العامة الكبرى أنه لا أحد يستطيع أن يحرر الفرد مما تبرمج به تلقائيّاً في طفولته حتى هو ذاته لن يحرر نفسه بإرادته أو بقرار يتخذه فلا بد من صدمة مزلزلة توقظه رغماً عنه من البقاء في أسر البرمجة وغبطتها المخدِّرة فتجعله يندفع تلقائيّاً للبحث والتحقُّق إن جون لوك لم يُفق من البرمجة التلقائية بتخطيط وقَصْد وإنما أيقظته المناقشات الحادة بمفارقاتها المنافية للمنطق فقد لاحظ أنها لا تؤدي إلى إقناع أحد الطرفين وإنما تجعل كل طرف يبقى أشدَّ إصراراً على رأيه وثباتاً على موقفه فلا يوجد فاعلية عقلية مشتركة ثابتة محايدة فاصلة تحكم بين المختلفين. ومن تلك المشاركات والمشاهدات والمقارنات والوقائع توصَّل جون لوك إلى أن الإنسان لا يولد بعقل ناجز فلا يوجد عقلٌ بشري جوهري عام مشترك يولد به الناس جميعًا فيصبح قاسماً مشتركاً بينهم ومرجعاً فاصلاً يحتكمون إليه وإنما يولد كل فرد بقابليات مفتوحة واستعدادات فارغة إنه يولد صفحة بيضاء فالإنسان بما ينضاف إليه بعد وجوده فالقابليات الطرية المرنة الفارغة يصوغها الأسبق من القوالب ويحدِّد اتجاهها الأسبق من المؤثرات إن عقل الفرد طارئٌ عليه ولم يولد معه فتجاربه وظروفه والبيئة التي ينشأ فيها هي التي تحدد قناعاته وولاءاته ونوع تفكيره واتجاه عواطفه وتفضيلاته ومنظومة قيمه ومحور اهتماماته وما يحبه وما يكرهه وهي التي تحدد هويته وآراءه ومواقفه وانتماءه. إن لكل بيئة عقلا مختلفا عن البيئات الأخرى بل لكل فرد عقلٌ يختلف عن عقول الأفراد الآخرين فالعقل ليس إرثًا يرثه الفرد بالولادة وإنما يرث الفرد قابليات فارغة هي امتداد لقابليات والديه لكنها قابليات فارغة كالكأس الفارغة يمكن أن تمتلئ بالعسل أو بالسم أو كالورقة البيضاء فالعقل المكوَّن هو نتاجُ قوالب بيئية وثقافية ومؤثرات وتجارب يمرُّ بها الفرد فتتلقاها قابلياته وتتشكل بها فكل فرد يختلف عن غيره بمقدار اختلاف القوالب التي صاغته وبحَسَب المؤثرات التي مرَّ بها فحدَّدت اتجاهه وكوَّنت محور اهتماماته إن تجارب الحياة وظروف البيئة وأوضاع المجتمعات وأنماط الحُكم والنماذج التي تربَّى على تعظيمها والنماذج التي نشأ على النفور منها هي التي تحدِّد تلقائيًّا أنماط العقول وطرائق التفكير ونوازع الفعل ومنظومة القيم وأنواع الاهتمامات وأساليب التعامل ومعايير التقييم. إن هذا التنوع في الرؤى والمواقف والاتجاهات بين الأفراد مهما تماثل تعليمهم قد أيقظ عقل جون لوك فأدرك أن قابليات الإنسان مهيأة لأية قَولَبة فراح يبحث عن السبب وراء كل ذلك وقد استغرق في التأمل والبحث والمقارنة ثمانية عشر عامًا وانتهى إلى إصدار كتابه (محاولة في الفهم البشري) وهو من الانجازات الفلسفية العظيمة على مستوى الحضارة الإنسانية كلها وكان من الكتب التأسيسية في نظرية المعرفة من وجهة النظر التجريبية وكما يقول فولتير: "لوك هو هرقل الميتافيزيقا.. وقد وَضَعَ حدود العقل البشري" كان الناس يعتقدون أن العقل البشري جوهرًا عامًّا وأنه واحدٌ عند كل البشر وأنه يولد مع الإنسان وأن نصيب كل فرد من العقل يتحدد قبل الولادة ولكن جون لوك بدَّد هذا الوهم وأظهر أن العقل ليس جوهرًا أو عضوًا أوكيانًا ناجزًا بالولادة وإنما يولد الإنسان باستعدادات وقابليات متهيئة لأية قَولَبة فتتنوع العقول بتنوع البيئات والمؤثرات إنه اكتشافٌ عظيم باهر تترتب عليه نتائج عظيمة حاسمة. لقد أدرك المفكرون التنويريون والفلاسفة العظام الأهمية البالغة لاكتشاف جون لوك لقابليات الإنسان لذلك فإن دالمبير يؤكد بوضوح بأن اكتشاف لوك في المجال الإنساني مماثلٌ في أهميته لاكتشاف نيوتن في مجال الكون فيقول: "خَلَقَ لوك الميتافيزيقا مثلما خَلَقَ نيوتن الفيزيقا" لكن إذا لم يكن عسيرًا أن يَتَفَهَّم الناس قوانين نيوتن في الفيزياء فإن إدراك المغزى العظيم لاكتشاف طبيعة العقل وإدراك دلالته العميقة هو مهمة بالغة العُسرة ومن الصعب على الناس أن يستوعبوا هذا الاكتشاف وأن يدركوا النتائج العظيمة الحاسمة التي تترتب عليه. بينما كانت المذاهب والمؤسسات الثقافية والتعليمية تُحدِّد طبيعة العقل بأنه جوهرٌ ثابت كما حدَّده الأسلاف فإن جون لوك قد خالف هذا الإجماع البشري وتحرك ضد التيار السائد فلم يقتنع بما كان سائدًا فاتجه إلى المشاهدات والوقائع والتجليات الثقافية والفردية وانتهى من كل ذلك إلى استبعاد ما كان سائدًا من أن العقل جوهرٌ ناجز وتوصَّل إلى أن العقل ليس سابقًا للوجود وإنما هو نتاجُ هذا الوجود إنه ثمرة التجارب المتكررة والقوالب السائدة وكما يقول ديدرو: "لوك أول من سعى إلى فهم عمليات العقل البشري معتمدًا على الطبيعة مباشرة بدون أن ينقاد إلى آراء تستند إلى المذاهب أكثر منها إلى الوقائع.. لهذا السبب تبدو فلسفته بالمقارنة مع فلسفتي ديكارت ومالبرانش أشبه بالتاريخ بالمقارنة مع الأعمال الروائية" ولكن ملاحظة ديدرو لا تقلل من قيمة ديكارت ومالبرانش وخصوصًا ديكارت الذي أحدثت أفكاره هزة عظيمة في أوروبا وفتحتْ للعقل الأوروبي ثم للعقل الإنساني آفاقًا عظيمة كانت مغلقة أمامه. وبهذا نرى أن الريادة الفكرية تأتي في الغالب خارقة للمألوف ومضادة للفكر السائد وتحاول أن تُحدث قطيعة معه كما تُمثل اعتراضًا حادًّا على كل أو بعض الممارسات القائمة.. فلا يكفي بل لا يصح أن يقال بأن الرائد سابقٌ لعصره فالسبق ليس ريادة خارقة وإنما هو تَقَدُّم في نفس الاتجاه السائد فهو إنجازٌ قد يكون عظيما لكنه غير خارق إنه إضافة غير نوعية أما الريادة الحقيقية فهي انفصالٌ عن السائد ومفارقةٌ نوعيةٌ أو قطيعةٌ فاصلة إنها تتحرك ضد التيار السائد وتحاول تغيير اتجاه التيار باتجاه مغاير وربما تريد صرفه باتجاه مضاد تتغيَّر به الأفكار والتصورات والولاءات والنماذج والإهتمامات ومنظومة القيم والممارسات وتتبدل به الأوضاع. إن الريادة الفكرية الخارقة للفيلسوف الانكليزي جون لوك كانت محاولة لتغيير الاتجاه والرؤية والمسار في مجال المعرفة وفي مجال السياسة وفي مجال العلاقات بين الأديان المختلفة والمذاهب داخل الدين الواحد فلو عَرَف المختلفون السبب الحقيقي لاختلافاتهم لكانوا أمْيَل إلى التسامح والتعايش فليست أفكار جون لوك امتدادًا للسائد ولا هي في نفس اتجاهه وإنما هي مضادَّة له إنها إضافات نوعية وتصحيحات جوهرية فقد كانت أفكاره ثورية في مجال نظرية المعرفة وفي المجال السياسي لذلك فإن الفيلسوف الأمريكي جورج سنتيانا يرى أنه الرائد الملهم لما جاء بعده من ثوارت فكرية جذرية فيقول: "إن الاستقلال الثوري لعقل لوك يعطينا مذاقًا أوَّليًّا عن داروين وحتى عن نيتشه" ولأن لوك هو الأسبق فإنه الرائد الأعظم لثورات الفكر الجذرية في العالم. لقد مثَّلَتْ أفكار جون لوك قطيعة مع الأفكار السائدة إنها تمثل نقلة نوعية في النظر إلى الإنسان وإلى العقل وإلى المعرفة وإلى أسباب اختلاف العقائد وإلى وظيفة السياسة وطبيعة السلطة وإلى العلاقات الاجتماعية وعلاقة الفرد بالمجتمع لقد كانت أفكاره تقتضي تحولات نوعية في الوضع الإنساني على المستويات الفردية والاجتماعية والسياسية والإنسانية فكانت في وقتها صادمة لما اعتاده الناس لذلك لم يكن غريبًا أن يقول عنه واحدٌ من أبرز أعداء التنوير في فرنسا أعني جوزيف دي ميستر وهو سياسي وفيلسوف فرنسي معاد للثورة ومقاوم للتنوير حيث يحكم عليه بثقة وصلف وعدوانية يمتاز بها الوثوقيون في كل زمان ومكان فيقول: "احتقار لوك هو بداية الحكمة.. ولسوف يأتي يومٌ يوضع فيه لوك بالاجماع في عداد الكُتَّاب الذين ألحقوا أفدح الأذى ببني الإنسان" لقد كان جوزيف دي ميستر يريد هيمنة الكنيسة الكاثوليكية على الأفكار والأوطان حيث يعتقد أن البابا من منطلَق مسؤولياته الدينية هو القائد الجدير والأحق بتوجيه المسيرة الإنسانية وقيادتها وكان يرى عودة النظام السابق إلى فرنسا والتخلي عن كل الأفكار التي أدَّتْ إلى الثورة الفرنسية أو تتوافق معها ولكن تحت إشراف وهيمنة البابا ضمن ما يعتقد أنها مسؤولياته العامة في الأرض. كان دي ميستر يرى أن الثورة الفرنسية من نتاج أفكار جون لوك الليبرالية وكان معاديًا للتنوير وللثورة وكان ينادي بمحو آثارها وكان مقتنعًا أن الناس سوف ينبذون الأفكار الثورية والتنويرية وينبذون معها جون لوك ولكن التاريخ الفرنسي والتاريخ الأوروبي عمومًا وواقع العالم الحر أو الساعي للتحرر سار في الاتجاه المضاد لتوقعات دي ميستر ومتفق مع ما دعا إليه جون لوك فالعالم لم ينبذ لوك كما تمنَّى دي ميستر وإنما حَصَل العكس حيث صار توطين الفكر الليبرالي هو المسعى الأكثر أهمية وإلحاحًا وانتشارًا في العالم الإنساني وأصبح هو الفكر السائد في أوروبا وأمريكا الشمالية واستراليا ويمتد انتشاره إلى كل العالم وهذا يؤكد الأهمية الكبرى لهذا الفيلسوف الرائد الذي كان ملهمًا للثورة الأمريكية أوَّلاً ثم في اندلاع الثورة الفرنسية ثانيًا ثم في انتشار وتعمُّق الأفكار التحرُّرية في أوربا والعالم كله ثالثًا. لقد اشتهرت فرنسا بأنها هي رائدة التنوير فهي التي أنجبت مونتسكيو وفولتير وديدرو وروسو وغيرهم من مشاعل التنوير لكن ليس هؤلاء سوى نتاج التنوير البريطاني ونتاج فلسفة رائد التنوير البريطاني جون لوك وهذه هي الحقيقة التي نبَّه إليها كثيرون ومنهم بليخانوف الذي أكَّد بوضوح أن فلاسفة التنوير في فرنسا تتلمذوا على فلسفة جون لوك فإذا كانت الولادة للحضارة الحديثة المعاصرة قد حصلت في اليونان أثناء تلك الطفرة الثقافية والفلسفية التي أشرقت في القرن الخامس قبل الميلاد فإن الولادة الثانية لهذه الحضارة الاستثنائية الباهرة قد تمخضت عنها هذه الجزيرة العجيبة فالصراعات الفكرية والسياسية في الجزيرة البريطانية قد انجلتْ عن ثقافة لا تتحرك إلا ويتحرك معها الازدهار الشامل فمنها جاء ازدهار الولاياتالمتحدةالأمريكية وكندا وجنوب أفريقيا واستراليا والهند وماليزيا وسنغافورة وغيرها. لقد كانت أفكار جون لوك هي الأساسي الفكري الذي قامت عليه الولاياتالمتحدةالأمريكية وكما يقول وليم دوجلاس في كتابه (حقوق الشعب) فإن: "جون لوك هو الأب الفكري للثورة الأمريكية وقد عبَّرتْ وثيقة إعلان الاستقلال عن فلسفة لوك" فلقد كان الآباء المؤسسون والرؤساء الموطدون لهذا البناء العظيم الشامخ متشبعين بأفكار جون لوك وكانوا يستلهمون نصوصه بتبجيل عظيم فهو الأب الروحي لهذا الكيان العجيب.