وأنا في المرحلة الثانوية، مررت بسجن أبها العام في طريقي لخميس مشيط، ولفت انتباهي آية كريمة كتبت على بوابة السجن "قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسم لاتقنطوا من رحمة الله، إن الله يغفر الذنوب جميعاً إنه هو الغفور الرحيم"، فشعرت وكأن نافذة أمل فتحت بين من أسرف على نفسه وبين السماء، وخنقتني العبرة وأنا أتخيل من هم في السجن، وكيف أن الله أرحم بهم من نفوسهم. بدون هذه الآية لنا أن نتصور نزلاء السجون، والمعتقلين في معسكرات الذنوب والمعاصي، وهم يشعرون أن ما قدمت أيديهم يكاد يكبهم في جهنم كبا، إن لم يقدموا على أعمال تقربهم إلى الله وتكون بحجم الجرم الذي ارتكبه كل منهم. وقد وصل الغرور ببعض الناس أنهم يضمنون الجنة بأعمالهم وليس برحمة الله. وفي حديث رواه الإمام أحمد أن شيخاً كبيرا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله إن لي غدرات وفجرات، فهل يغفر لي؟ فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: "ألست تشهد أن لا إله إلا الله ؟ " قال: بلى، وأشهد أنك رسول الله. فقال: " قد غفر لك غدراتك وفجراتك". تذكرت هذه الآية والحديث وغيرهما وأنا أقارن بين صورتين متعارضتين، أولاهما أن الغرب جعل الفشل جزءاً من عملية التعلم، فالفشل ليس نهاية المطاف، بل هو دورة في حياة الإنسان ينتقل منها إلى دورة أخرى قد يحالفه فيها النجاح، وهذا المبدأ منتشر أيضا في الولاياتالمتحدةالأمريكية تحديداً في ريادة الأعمال، فأنت تقدم الفكرة، وتجد عليها التمويل، وإذا فشلت بدأت فكرة أخرى حتى تنجح أو تهلك. أي إن حياة الإنسان لا تتوقف عن حدود الإخفاق أبداً بل تبدأ من هناك محاولة أخرى باتجاه النجاح. النتائج التي تجنى من هكذا مدرسة تتمثل في الصحة النفسية، فالإنسان لايقضي بقية حياته أسيراً للفشل والشعور بالذنب وإنما يحاول ويستمر في المحاولة مهما كانت النتائج، فينعكس ذلك على صحته وسلوكه ومجتمعه. عندما اقتربت مناقشتي للدكتوراه في جامعة ليدز، كنت قلقاً.. تساقط شعر رأسي، وهجرني النوم، وتمكن مني الخوف على مستقبلي. فقررت أن أبوح لأستاذي بذلك لعله يخفف عني، مع معرفتي الأكيدة أنه لن يدخل المناقشة معي كما اعتاد مع جميع طلابه. قال لي وهو يبتسم، لقد أبليت بلاء حسنا خلال السنوات الماضية ولو أخفقت فإنك تستطيع أن تعمل وفي موقع ممتاز بخبرتك في الدراسة. وبقدر ما توقع أنه أسعدني فقد زادني هلعاً؛ لأنني استحضرت "جماعتي" وجامعتي، وأصدقائي ومعارفي، وتخيلت نفسي لاسمح الله عائداً بخفي حنين. عندها لم أكن أعلم ماذا سيحدث لي. قد أذهب للجهاد خجلاً من الناس فأقتل في سبيل الله، وقد ألجأ للعيش في بلد يعترف بخبرتي ولا أعود إلى مجتمع سوف يعيرني ما حييت بالفشل، وسوف أكون عاراً على أسرتي. قلت له: مجتمعي يا أستاذي لايعترف إلا بالورقة التي اسمها "شهادة" وليس غير. لاحظوا المجتمع من حولنا عندما تأتي فترة الاختبارات ومستوى الحشد النفسي والضغوط التي تمارس على الطلاب وكيف أنه لا توجد طرق أخرى سوى النجاح، أما الرسوب فإنه نهاية المطاف خصوصاً في السنوات الأخيرة من كل مرحلة. ولفت انتباهي وأنا أتابع برنامجاً في العربية عن الهجوم الذي شنه إرهابيون على مصفاة عين أميناس جنوبالجزائر معلومة تقول إن زعيم الجماعة الإرهابية ويدعى مختار بالمختار كان مهرباً للدخان والمخدرات قبل التحاقه بالجهاد في أفغانستان. وذكرني ذلك بعدد من أفراد الفئة الضالة الذين أجريت معهم حوارات في برنامج الحاير وخلية النفط وتشرفت بإدارة حلقات البرنامجين على الهواء مباشرة في القناة الأولى أنهم كانوا يتحدثون عن إسرافهم على أنفسهم بالذنوب والمعاصي وأنهم من أجل توبة أسرع "وضمان الجنة" فقد التحقوا بالقاعدة ليقتلوا في سبيل الله على حسب زعمهم ووفق فهمهم. أيهما أسهل أن تفجر نفسك في مسلمين أو مسالمين من أية ديانة كانوا أو أن تثق بوعد الله الذي قطعه على نفسه في الآية السابقة؟ يصعب على هؤلاء أن يصدقوا بأن باب التوبة مفتوح، وأنه يمكن لمن أسرف على نفسه أن يجد في رحمة الله سعة تغمره بالرحمة والمغفرة. أالله ورسوله صلى الله عليه وسلم القائل " كفارة الذنب الندامة"، و"لو لم تذنبوا لجاء الله بقوم يذنبون، فيغفر لهم" أصدق أم المفتين الذي يسكنون الظلام ويفخخون عقول الشباب بعد تيئيسهم من رحمة الله ومن ثم تفجيرهم؟ الحلول طويلة المدى لكثير من مشكلاتنا تتطلب فهماً عميقاً لديننا وأن يتم توظيف ذلك في حياتنا تطبيقاً عملياً بعيداً عن دعاة الموت، فديننا دين حياة وبناء وليس ديناً عدمياً يحث على القتل والدمار. الأمر يتطلب أن نعود إلى أساسيات التربية في مدارسنا، وأن نعلم أبناءنا بأن الفشل ليس نهاية المطاف، وأن المذنب أمامه باب واسع إلى رحمة الله يبدأ بالندم، ويمر عبر التوبة والاستغفار. غفر الله لنا بمنه وكرمه ذنوبنا في هذه الأيام الفضيلة، وكل عام وأنتم بخير.