لا يحتار الحكماء كيف يبدؤون، ولا يبدأ العقلاء إلا بما لمآله وعواقبه يدركون، فكلمة من حكيم، وملحوظة من عاقل ورأي مجرب خبير، قد تكون بمثابة سفينة للنجاة بين أمواج عاتية من الفتن، التي بدأنا نشعر بها تحيط بنا من كل مكان، وتدنو منا لتلفنا بأعاصيرها، وتغرقنا في أمواجها، والكل يدلي بدلوه في البحث عن مخرج، أو يزعم أنه هو الذي يملك مفتاح النجاة، ويمسك مرساة الثبات. لذلك كان لزاماً على الحكماء والعقلاء والعلماء أن تكون لهم الريادة في كل أمر والأولوية في كل صف، والفصل في أي خلاف، خاصة في وقت عصف الرياح العاتية، وزلزلة الشبهات المدمرة . هكذا تسير الحياة إلى بر الأمان، فالناس صنفان تابع ومتبوع، ولابد للتابع أن يتخلق بآداب التبعية، فإن شرعنا السمح قد قرر هذا الأصل أيما تقرير، وضرب لذلك الأمثلة، وتبيّن بالأدلة النقلية والعقلية كيف تكون النجاة، وكيف تنتظم المعيشة وكيف يكون الثبات على هذا الخط المستقيم . وعلى هذا ينبغي للناس أن يشرئِبوا بأعناقهم ويعوا بآذانهم ويتوجهوا بقلوبهم إلى وجهة واحدة، هذه الوجهة هي التي قدمها الشرع ونصرها العقل "وجهة العلماء وذوي الأمر" وليس المقام مقام بسط للأدلة ونقل للآثار والأقوال فالمسألة أشهر من نار على علم، وإنما هي كلمات نتساءل فيها عن دور أولئك العلماء وذوي الأمر، ونُحيي بها روح التناصح الذي يهدف إلى حث كل ذي رأي حصيف أن يقوم بدوره كما هو ؛ أداءً للأمانة، وترجمة للتقوى، وإبراءً للذمة، فقد تعددت الوسائل وكثرت الطرق التي من شأنها أن تُوصل الموعظة إلى الرعية، ولا نشكو من قلة إمكانات بفضل الله، غير أن بعضنا لم يزل في غفلة عن المطلوب منه، وربما أصبح قِمْعًا للقول يردد ما يقال، وتمرّ عبره الأقوال، فيكبّر الكُليمة إلى جملة، ويكثر السطر إلى صفحة، فتكثر الأراجيف، وتنتشر الأباطيل، ويعلو صوت التكفير والتضليل، الذي قد يقود في النهاية إلى القتل والتدمير، كما هو واقع اليوم، في دويلات ليست منا ببعيدة . ولو أدرك ذو الرأي المطلوب منه ابتداءً لما آل المآل إلى ما يسوء كل ذي لب، ويفطر قلب كل مؤمن . قد تقول إلى الآن لم تتضح للقارئ العبارة، ولم يدرك بعد معنى الإشارة، فأقول انظر يميناً وشمالاً ماذا ترى ؟ في العراق، في سورية، في اليمن، وفي كثير من البلاد الإسلامية، أين علماؤنا الأكابر مما يجري، يلفهم الصمت الرهيب، وتعلوهم السكينة، وحالهم عجيب . ألا ينبغي لنا أن نكثف جهودنا ونصل ليلنا بنهارنا حرصاً منا على هذا الوطن ؟ لقد تتابعت الأحداث وتداخلت صورها في نظر كثير من الناظرين، لكنها في نظر الحريصين على هذا الوطن صورة واحدة، هي الغلو، والتطرف، أخذا أو تركا، ما قاد فئاماً كثيرة إلى الانحراف عن جادة تعاليم الإسلام، بل حتى عن شعور الإنسان، حتى بُلينا بمن لا يفكر بمصلحة وطن ولا بأمن مواطن، ولا بحرمة دم، ولا بعصمة مال، وإن حمل مشعل الإصلاح، وبدا على مظهره الصلاح، هو في الحقيقة محرّض، وأقواله أقوال مغرض. وأصبحت تحدق بنا عصابات تقتل الآمنين، وترهب المسلمين، وتطور الأمر فأصبحت هذه الجماعات الضالة تمتلك أسلحة ثقيلة وأموالا طائلة، وتكون لها حظيرة تأوي إليها، وترفع فوقها راية الإسلام بصورة القاتل، المخيف، المرعب لكل القيم، لا يرقب في أحد إلاً ولا ذمة، أشبه ما يكون دعاته بمصاصي الدماء، يتلذذون بلونها، ويستنشقون ريحها، ويستعذبون التعذيب، وترتاح نفوسهم بقتل الحياة أينما دبت، يسعون في الأرض فسادا، والله لا يحب المفسدين، واكتسى هؤلاء المفسدون لباس الإسلام، وحملوا رايته، وجعلوه لهم شعارا ودثارا، والعلماء يلفهم الصمت، ويكسوهم الكسل عن بيان الشبهات ودحضها، ومحاورة المساكين الذين يغرهم استعراض القوة في زمن الخنوع، وتسلب أفئدتهم عضلات من ورق تقوى على الضعفاء من المسلمين، تحكم بردتهم، وتنفذ حكمها في أقل من زمن تستغرقه قراءة خمسين آية ! وتستغفل الشباب وتغرر بهم لمحاربة آبائهم وإخوانهم وبني جلدتهم . وإذ عرفنا الخطر ؛ ورأيناه ونحن ننظر، فما هو الواجب الذي يمليه علينا الشرع ويستوجبه العقل ؟ إنه واجب الالتفاف حول القيادة الحكيمة لإعانتهم في أي قرار من شأنه أن يحفظ حرمة دماء المسلمين، ويعصم أموالهم، ويُؤَمّن حياتهم، وها هي الساحة مفتوحة لكل من خرج من " كسله وصمته " ولكل ذي كلمة، عالماً كان، أو خطيباً، أو فقيها، أو أستاذاً، أو صحفياً، أو إعلامياً، بكل الوسائل، الإذاعات والقنوات التلفزيونية، والبرامج المباشرة، واللقاءات في المحافل، ومن على كل منبر من منابر التواصل مع الناس، فهذه أيام لا ينبغي فيها التواكل، ولا تترك فيها تلك المنابر لغير أهلها، والذي لا يصلح له إلا السكوت يجب أن يسكت، فإن ضرر المتكلم فيما لا يعنيه كبير، ألا نملك قانونًا للكلام، أليس في إسلامنا ميزان " ... فليقل خيراً أو ليصمت "، والذي تنفع كلمته ويؤثر قلمه يجب أن يتكلم بما فيه مصلحة الوطن، فإن لم نتكلم بما فيه المصلحة في أيامنا هذه فمتى إذن ؟ لعلها اتضحت الفكرة وتبين المراد، إنها مسؤولية الجميع بلا استثناء، فالسفينة واحدة والغرق سيعم الجميع إن لم يُؤخَذ على أيدي أولئك الذين يريدون خرق السفينة، ويسعون لإغراقها، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا .