في رحلتي الصيفية الأخيرة زرت مدينة ألمانية تدعى قارمش "Garmisch"، لم أكن قد قرأت عنها، ولم يرافقني دليل سياحي، ليحكي لي عن تاريخها وبماذا تشتهر، وعن عادات وتقاليد أهلها. تجولت أنا الغريبة في مدينة أجهل كل شيء عنها عدا اسمها، إلا اني سرعان ما تكشفت ملامحها وبدأت التعرف عليها، كلما تجولت اكثر وطفت بنظري في أرجائها أدركتها بحب وعمق أكثر، لم تدع لي جداريات المباني عذراً لأجهلها، فروت لي قصة المدينة، وعادات أهلها، وتاريخها، وكأنني أسير على صفحات حكاية مصورة، أو أزور معرضاً فنياً مفتوحاً. قدمت لي قارمش نفسها في رسومات زيتية فنية أنيقة ومبهرة.. فسررت بالتعرف عليها. أدركت ساعتها أن العمارة فن يكشف هوية وشخصية المكان وأهله، واحترمتها لقدرتها على المحافظة على ذاتها متألقة مع مرور الوقت وتقلب أحوال السياسة والمجتمع والدين؟! حاولت قياس تجربتي وإسقاطها على زائر غريب يجهل كل شيء عن الرياض عدا اسمها، كيف له أن يتعرف عليها؟! لو جال وصال بنظره، لو تفحص، لو دقق على ماذا سيتعرف.. حين تحيط به مكعبات إسمنتية بلون الطين والرمل، مكعبات لم نعمر بها الصحراء إنما كعبناها فحسب. مبان فقيرة الذوق وتعيسة ضائعة الهوية رغم قيمتها الباهظة. يدخل الغريب إلى احدى مكعبات التعاسة ليقف امام خيمة منصوبة على السيراميك، (كنصب من نوع فاخر)، فيصاب الغريب بزهو الاكتشاف والمعرفة: إنهم بدو ! لكن ما إن يدلف إلى الداخل ليعود مرتبكاً مشوشاً بالديكورات والاثاث ذات الطابع الاوربي.. فيعود متسائلاً: أوربيون؟! يتجول في أنحاء البيت ليلاحظ مجلساً للرجال ومجلساً آخر للنساء، ويخرج ليجد أن لكلاهما أيضاً بوابات منفصلة. الحدائق تجمع بين الصبار والنخيل والأزهار الهولندية.. من هم ياترى هؤلاء؟ !. ولن يتوصل الى أية إجابة، سيبقى في حيرةً من أمره، ولا يلام ! ولكن لو عاد الزمان بهذا الغريب، إلى زمن بيوت الطين، وتحسسها بيديه، وتساءل لماذا "الطين"، لتأتيه الإجابة مستعرضة خصائصه الصديقة للبيئة الصحراوية، فهو الانسب بعزله لحرارة الصيف اللاهبة، محتفظاً بها ليعود ويطلقها من جوفه في الشتاء، وبتميزه بامتصاص الرطوبة الزائدة والاحتفاظ بها للأوقات الجافة، وحين يسأل الغريب من اي الاشجار رفعت السقوف وصلبت الابواب، يجاب من الأثل والنخيل والسدر. يتنقل بين (الروشن) مجلس الضيوف المنعزل، إلى (بطن الحوي) الصالة، ثم إلى الديوانية (مجلس الشتاء) وبحضرة (الوجار) المتصدر للمجلس وكأنه شيخ يقصده ويتحلق حوله الجلاس، ومصفوفة من دلال القهوة التي لخصوصيتها ومكانتها الرفيعة وحساسية نكهتها أخذت بمعزل عن المطبخ. يجوب المكان لامحاً (الفرجة) التي يختبئ في زوايا فتحاتها التوجس من الغريب، فتحة في أعلى الجدار تعلو الباب الخارجي للمنزل لتكشف هوية الزائرين. يتأمل الغريب صنعة من جلد الماشية ممتلئ جوفها عامر بالمياه يطلق عليها (القربة). وحين يصل الى (الصهروج) ويتساءل عن اختلافه عن دورة المياه الأخرى، يأتيه الجواب بأن أحدهما مخصص لوضوء الصلاة والاستحمام. ستتكون الفكرة لديه واضحه وسيدرك أين هو، ومن هم أهل المكان.. إنهم أهل الصحراء، فقراء المال أغنياء الوعي والحكمة.. لكن شاء الزمان أن يبدل الحال أو بالأحرى أن يقفز به، لتأتي الطفرة وتتقهقر الهوية.. أصبح الجميع أغنياء، ازدهرت صناعة المقاولات والبناء، وجاء المقاول،ن والمهندس،ن من الجوار، ليصمموا فللاً كبيرة أكبر بكثير من حاجة أصحابها، وعلى الطراز الذي يألفه المهندس الغريب ويتقنه. فلو كان من أمرنا أن خصصنا إحدى الغرف في منازلنا الحديثة للعبادة وللصلاة التي نمارسها كنساء فرضاً وواجباً يومياً لمرات متعددة، ألم يكن الأجدر بنا أن نخصص في دورة المياه مكاناً خاصاً بالوضوء. والكثير من التفاصيل الاخرى التي تشبهنا، بدلاً من البلكونات التي ظن المهندس أن لها قيمة وأهمية مثلما في بلده. فاستنساخ ما هو موجود في منطقة مختلفة عنا لأسباب جمالية فقط قد يكون له أثر سلبي وانعكاس لا يناسب ولا يلائم طبيعة المكان، كمثل العمائر بالواجهات الزجاجية فإن استنساخها يتسبب في استهلاك قدر كبير من الطاقة نظراً لارتفاع حرارة مناخ المنطقة. انا لا ادعوا إلى ملازمة الماضي بتفاصيله والبقاء عليه كما هو، إنما الاحتفاظ بالفكرة، والهوية، والتراث مع تطوير الاسلوب والطريقة. يقول المهندس المعماري يحي وزيري وأقول معه: "إن معيار التمسك بشكل أو عنصر معماري محدد هو صلاحية هذا العنصر لأداء الوظيفة التي كان يؤديها بنجاح منذ مئات السنين، وليس أن يقتصر استعماله فقط للتعبير عن مشاعر الحنين الى الماضي، في مقابل الهروب من واقع صادم أو تقدم تقني متسارع لا يمكن فهمه أو استيعابه." ما نراه الآن بيوتاً حديثة غير مرتبطة بطراز معين او شخصية معينة، بيوتاً بلا فلسفة، أو حتى معنى يحكي عنها. والمسؤول عن ضياع الهوية المعمارية هما البلدية والمالك على حد سواء، ويقع على عاتقهما مسؤولية تصحيح ومعالجة هذا التلوث البصري والتراثي. إهمالنا للتفاصيل المعنوية لمنازلنا، وضعف تقديرنا لروحها، أوعز بنا إلى إهمالها ونسيانها ما إن ينشأ حي جديد ومنطقة سكنية جديدة، لنهرول مسرعين إلى الامام تاركين ومخلفين وراءنا المناطق والاحياء القديمة المليئة بعبق التاريخ والتراث للاندثار، وسكناً للمتسولين والعمالة. البحث عن هوية العمارة هو بحث عن هوية الأمة، والهوية ثقافة، والثقافة دين ولسان ووجدان.