رواية العراقي أحمد سعداوي "فرانكشتاين في بغداد"، الفائزة بجائزة الرواية العربية العالمية (البوكر) لعام 2014، استعادت أسطورة شهيرة ارتبطت بالكاتبة الإنجليزية ماري شيلي. والحق أن سعداوي لم يكن بحاجة إلى فرانكشتاين تحديداً لتوظيف الدلالة الأساسية لتلك الشخصية الغرائبية لولا بعض التفاصيل التي ينفرد بها، ففي الموروث العربي كائنات شبيهة تخرج على أصحابها وتدمرهم ومن حولهم (مارد القمقم مثلاً). غير أن سعداوي، كما يتضح من روايته المدهشة، أراد بالفعل تفاصيل محددة ترتبط بفرانكشتاين، أو فرانكنشتاين على وجه الدقة، لم يكن بمقدور مارد القمقم أو ما يشبهه في الموروثات الأخرى حملها. رواية السعداوي تشير إلى فرانكشتاين في العنوان، لكن متن الرواية يعتمد اسمه الآخر الغريب، اسمه العراقي العامي والبسيط وهو "الشسمه" (الشو اسمه أو الوش اسمه)، للإشارة إلى كائن غريب يقتات جثث الضحايا ليؤلف جسده من أعضائهم وحين لا يجد ضحايا جاهزين يقوم بقتل من يستطيع لكي يبقى على قيد الحياة فيصبح أداة تدمير. ولا يحتاج القارئ إلى كثير من البحث والظن لكي يدرك أننا إزاء كائن خلقته ظروف العنف في العراق نتيجة الأحداث المتوالية منذ حرب الخليج والتي وصلت ذروتها بالاحتلال الأمريكي، فهو كائن صنعه العنف ويحتاج العنف لكي يبقى، كما أن المسؤول عنه ليس جهة واحدة وإنما عدة جهات، فهو في النهاية عدو الجميع. توظيف فرانكشتاين أو الشسمه يمثل إنجازاً سردياً عجيباً تميزت به رواية السعداوي، وتغيير اسم تلك الشخصية جزء من ذلك الإنجاز، فهو فرانكشتاين العراقي وليس فرانكنشتاين الأجنبي (بنون بعد الكاف)، تماماً مثلما أنه الشسمه، كائن تبيّأ اسماً كما تبيأ دلالة (هو في الحقيقة مزيج من فرانكنشتاين ومصاص الدماء). والدلالة تحملنا إلى رؤية الكاتب مما كان يجري في العراق في السنوات التي سبقت كتابة الرواية وتزامنت معها (فقد تغير الوضع الآن كما هو معروف). العنف الذي كان يأتي من مصادر مختلفة صار عنفاً خالياً من الهوية، عنفاً متعدد الأسماء والوجوه، الكل يفجر والكل يقتل والكل يضطهد وهكذا. من هنا جاء افتقار اسم فرانكشتاين للهوية بافتقاره للصلة الواضحة بأصله الأجنبي من خلال تحوير الاسم، ومن خلال الاسم الذي اخترعه السعداوي (الشسمه). لكن بقاء الاسم الأجنبي مهم للدلالة على الدور الأجنبي، مثلما أن ظهور الاسم المحلي مهم كذلك. فرانكشتاين يستحضر دور الأجنبي في عنف العراق، والشمسة دور المحلي من طوائف وأنظمة سياسية وعشائر وما إليها. لكن إذا كان فرانكشتاين والشسمة يشيران إلى ضبابية المسؤول عن العنف، فإلى ماذا يشير اختيار الكاتب أو الرواية لتلك الضبابية؟ إلى ماذا، بتعبير آخر، تشير رغبة الكاتب بأن يلقي باللائمة على كائن هلامي لاينتمي بوضوح إلى أحد؟ هل لأن مصدر العنف ضبابي فعلاً، أم لأن طبيعة العمل الفني تقتضي موقفاً حيادياً تجاه الأحداث وآثارها؟ أم أن الكاتب وجد نفسه أمام المعضلة السياسية والدينية الأخلاقية المتمثلة بإلقاء المسؤولية على طرف ما فآثر تجسيدها في كائن مشترك، غريب وحيادي؟ لا مفر من القول بأن أسطورة فرانكنشتاين (العراقية) تشير إلى مسؤولية مخترع ذلك الكائن، فهو الذي صنعه والمسؤول من ثم عن نتائج ما يصنع. فهل نقبل من العمل الأدبي أن يتخلى عن مسؤوليته في تحديد هوية العنف لأنه عمل أدبي أو فني؟ إنه سؤال مهم تطرحه الأخلاق على الفن، وتطرحه المسؤولية السياسية والاجتماعية على الكاتب أو الفنان. قد تكون ظاهرة العنف السياسي والديني، مثل كثير من الظواهر، ظاهرة مركبة وشديدة التعقيد لكثرة مكوناتها والفاعلين فيها، لكن هل يتنافى ذلك مع إمكانية تحديد تلك المكونات والأطراف وإمكانية إدانة أحد من أولئك وإن بشكل غير مباشر؟ المؤرخون والمحللون السياسيون والمفكرون عامة يواجهون تلك الظواهر نفسها، كما يواجهها الكاتب والفنان، ولكن في حين يخرج أولئك غالباً برؤى توضح طبيعة الظواهر وما يكتنفها ويؤدي إليها، يسعى بعض الكتاب أو الفنانين إلى عدم اتخاذ موقف واضح فيترك الأمر للقارئ أو المشاهد ليخرج بتصوره أو تفسيره لما يشاهد، وهو ما يحدث في رواية السعداوي مثل روايات وأعمال أدبية وفنية أخرى. غير أن هذا الموقف ليس ما تتسم به الكتابة الأدبية والإبداع الفني دائماً. فمن الأعمال ما يتخذ مواقف أكثر وضوحاً، كما نجد مثلاً في ما شاع إبان الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي فيما عرف بالأدب الملتزم، أي ذي المواقف السياسية والأيديولوجية الأكثر وضوحاً وإن لم تسئ للعمل الفني بالضرورة (تسيء غالباً لكن ليس دائماً). ما أشير إليه يلمس طبيعة الفن أو الإبداع عموماً فيتقاطع مع أسئلة ما تفتأ تثار بين الحين والآخر حول دور الأدب تجاه الحياة ومتغيرات السياسة والاجتماع. ليس أسهل من كتابة نصوص تتخذ مواقف واضحة مع هذا أو ذاك، لكن تلك في الغالب تجنح للتسييس والأدلجة الفاقعة على حساب قيمتها الفنية. وفي المقابل تطالعنا أعمال تفضل، مثل رواية السعداوي وغيره، أن تتبنى ما سماه الشاعر الإنجليزي كيتس ب "المقدرة السلبية" negative capability التي تعني تحييد المؤثرات المختلفة على الشاعر أو الكاتب أو الفنان الذي يقدر على اتخاذ موقف أو الخضوع لمؤثر ما لكنه يؤثر ألا يفعل. غير أن تلك المقدرة السلبية قابلة أيضاً أن تكون مخرجاً للكاتب أو مهرباً له من أخطار تحدق به لو هو أدان هذه الجهة أو تلك. وفي الوقت نفسه من المؤكد أن كثيراً من الكتاب يؤثر ألا يكون قادراً سلبياً وإنما إيجابياً ولكن دون الوقوع في فخ المواقف التي تسيء لطبيعة الإبداع. وفي تقديري أن الاستطاعة السلبية الكاملة غير ممكنة أصلاً، فلابد للإنسان من اتخاذ موقف، لكن ذلك الموقف قد يتوارى إلى درجة أنه يصعب تبينه بسهولة. في الرواية تبرز شخصيات يشعر القارئ أنها تعبر عن موقف ذي وزن أكبر وقريب من الآراء المعروفة للكاتب، وقد يحدث هذا في المسرح وفي القصة القصيرة. أما الشعر فأمره مختلف والحديث عنه مختلف أيضاً، فإن لم يصرح الشاعر بموقف ما، وهذا نادر الحدوث لطبيعة الشعر الغنائية أو الذاتية، فإن نغمة الكلام كفيلة بإعلان المواقف.