تحدثت في آخر مقال عن خطأ أو مغالطة الاستشهاد بالأكثرية أو الأقدمية لإثبات صحة الشيء بدليل قوله تعالى (وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا)... أما ثالث خطأ يمكن الاستدلال به فهو الطلب من الآخرين تقديم دليل ينقض أو ينفي ما تدعيه أنت.. فمن يدعي شيئا يتحمل هو (وليس السامع) عبء إثباته وتقديم الدليل على صحته حسب القاعدة الشرعية والقانونية : البينة على المدعي وليس على من أنكر.. فحين يخبرك صديقك مثلا أن مخلوقات فضائية هبطت في شمال السعودية يتحمل هو عبء تقديم الدليل وليس أنت.. ولكن لنفترض انك سخرت من ادعائه هذا (الذي لم يدعمه بصور وتقارير إخبارية) وقال لك: "أثبت أنت عدم وجود مخلوقات فضائية".. بهذا المنطق يكون قد دخل في مغالطة تتضمن نقل عبء الاثبات إليك، وتحميلك أنت مسؤولية (نقض) ما عجز هو عن إثباته.. وهذا النوع من الاستلال يظهر بكثرة حين يتناقش أتباع الديانات المختلفة مع بعضهم البعض.. فقد تدخل مثلا في نقاش حاد مع راهب هندوسي فيقول لك: "وكيف تثبت أن ديانتي على خطأ؟" أو "كيف تدعي أن آلهتي غير موجودة" أو "كيف تثبت أن كتابي من تأليف البشر" في حين أنه هو من يجب أن يقدم الدليل على صحة ديانته ووجود آلهته وقدسية كتبه، وليس أنت الذي لم تشغلك يوما هذه الأسئلة ... أما رابع مغالطة في الاستشهاد على صحة الرأي فهي: تغيير الموضوع والخروج عنه بطريقة زئبقية ماكرة.. ويحدث هذا حين تتحدث في قضية واضحة ومحددة فيرد عليك الطرف الآخر بأدلة أكثر قوة وبلاغة (ولكنها للأسف لا تتعلق بالموضوع).. مثلا .. حين كتبت مقالا أنكرت فيه قدرة الجان على التلبس في جسم الانسان أتتني معظم الانتقادات بطريقة: ولكن الجن مثبت في القرآن والسنة.. وهذه بدون شك حجة قوية لا يمكن مخالفتها، ولكنها ببساطة لا تتعلق بموضوعنا كوني لم أنكر وجود الجان بل تحدثت عن استحالة دخوله في جسم الانسان (وهذا يعيدنا بالمناسبة الى القاعدة السابقة: البينة على المدعي وليس على من ينكر).. أيضا قد تعترض أنت على ذهاب أبنائنا للقتال في سورية والعراق فيرد عليك أحدهم "ولكن الجهاد فريضة هانت الأمة بعد تركها".. وهذه الحجة بدورها قوية (بل ومرعبة كونها تجعلك تبدو كمن يعترض على فرضية الجهاد أو يرغب في استمرار هوان الأمة) ولكنه ببساطة يقدم حجة قوية على قضية لم تطرحها أصلا كون قضيتك الأساسية هي التغرير بفتيان غير مؤهلين للحرب في مواطن فتنة وفرق تدعي كلها الانتماء للإسلام وتملك رجالا وسكانا أكثر منا... ... وقبل أن نختم المقال اسمح لي بتذكيرك باختصار بما ذكرنا في مقال الأمس واليوم: من المغالطات الشائعة بين الناس (حين يرغبون في إثبات أفكارهم ومواقفهم) الاستشهاد برأي الأكثرية، والأقدمية، وطلب دليل ينفي ادعاءاتهم، وتقديم حجج قوية على مواضيع لم تطرح أصلا !!